الثلاثاء، 20 يوليو 2010

الاستخدام المفرط لفلسطين: تجربتا إيران ولبنان

المستقبل - الاربعاء 23 أيلول 2009 - العدد 3431 - شؤون عربية و دولية - صفحة 14

http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=369300

أنيس محسن
اعترافاً بداية بالأخطاء الكبرى للقيادات الفلسطينية بحق القضية والشعب منذ بدء التهيئة الصهيونية لإقامة إسرائيل، وهي قد ترقى الى مرتبة الخطايا، وبالأخطاء الصغرى التكتيكية المزعجة، فإن المحيط المباشر والقريب من القضية الفلسطينية ارتكب ويرتكب الأخطاء الكبرى والصغرى من خلال الاستخدام "الايجابي" المفرط والسلبي المطلق للقضية وشعبها، وهو ما تتحدث عنه المقالة هذه، لملاقاة التطورات الأخيرة من لبنان الى إيران وطبعاً مروراً بالبلدان العربية.
منطلق البحث هذا ما جرى أخيراً خلال تظاهرة يوم القدس العالمي في طهران حيث خرجت على هامش التظاهرة تلك تظاهرة أخرى للمعارضة (وهي معارضة من قلب النظام) للمرة الأولى، أخطر ما فيها إطلاق هتاف: لا غزة ولا لبنان نستشهد من أجل إيران.
وأيضاً الحملة التي أطلقها قياديون ومنتمون الى التيار الوطني الحر (العونيون) للتذكير بـ"التوطين" الذي استخدم فزاعة لمواجهة قوى 14 آذار، وبلغ حد تحويل فزاعة التوطين الى فزاعة الفلسطيني.
من الدعم الشامل الى "إيران أولاً"
معروف أنه منذ الثورة الخمينية نهاية سبعينات القرن الماضي، انقطعت العلاقة بين إيران وإسرائيل، وحلت مكانها علاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي امتلكت ثاني تمثيل ديبلوماسي متكاملاً لها بعد افتتاح سفارة لها في تركيا، وكان سواد الشعب الإيراني مع الخطوة، رفضاً للعلاقة بين نظام الشاه وإسرائيل والدعم الذي كانت تقدمه تل أبيب للنظام البهلوي.
السؤال الذي يُطرح الآن: ماذا تغير ليطلق شعار "لا غزة ولا لبنان نستشهد من أجل إيران"؟.. الجواب: إنه الاستخدام المفرط من قبل النظام لفلسطين كمشجب حتى لمواجهة بعض الداخل وكل الخارج.
الجيل الذي رافق الثورة الخمينية، يشارف على الانتهاء، والجيل الحاكم الآن ممثلاً بأحمدي نجاد هو الجيل الثاني للحكام في مرحلة ما بعد الثورة، أما شعبياً فإن الشبان الآن هم الجيل الثالث منذ الثورة الإسلامية، وبالتالي، فإن المفاهيم والاهتمامات كلها تغيرت: الشباب من الطبقة المتوسطة أصبح همهم البحث عن مشاكلهم خصوصاً ايجاد فرص عمل لهم بعد التخرج من الجامعات، والشباب من الطبقات الفقيرة والمعدمة همهم تدبير قوتهم الملتصق حالياً بما يقدمه جهاز "الباسيج" (قوات التعبئة) من مرتبات ومساعدات تعليمية وحياتية أخرى حتى بات تعداد "الباسيج" المنتظم مباشرة أو بعد التعبئة أكثر من 8 ملايين، يضاف اليهم حرس الثورة (الباسدران) والمستفيدين من محيط الجهازين التابعين اسمياً للمرشد الأعلى (علي خامنئي حالياً) بنحو 15 مليون فرد في عمر الانتخاب، ما يعني أن من هم في الدائرة القريبة للنظام بين 20 و25 مليون فرد، في المقابل هناك أكثر من ضعفهم ليسوا مؤيدين للنظام وهم من فئة الجيل الثالث الخارج عن وعلى النظام الإسلامي، وتجلياته المتمثلة بالدولة العميقة الأمنية لـ"الباسدران" و"الباسيج".
وسط الحراك الداخلي في إيران والتطورات المتلاحقة، وتوجه الدولة من مرحلة الثورة الإسلامية، الى الدولة الأمنية العميقة، وتجمع القوى المعارضة من بقايا جيل الثورة الخمينية الأول والمعادين للثورة الساكتين خلال وهجها والأجيال الجديدة المنتمية الى الطبقة الوسطى، تكون القضية الفلسطينية واحدة من الضحايا، ربطاً بالاستخدام المفرط للنظام الحاكم للقضية الفلسطينة في مواجهة القوى الكبرى وفي الداخل، والتفاخر في تقديم الأموال الطائلة والمساعدات لحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة في مواجهة إسرائيل وللحركتين وفصائل أخرى في الشتات، بل حتى الداخل الفلسطيني المحتل منذ العام 1948 وكذلك لـ"حزب الله" و"أمل" في لبنان، فيما البطالة تتسع وفئات ما تحت مستوى الفقر يزداد تعدادها، ما قد يفسر شعار "لا غزة ولا لبنان نستشهد من أجل إيران" الذي رفع خلال تظاهرة يوم القدس الأخيرة في طهران.
التفسير هذا لا يأتي من وحي تظاهرة يوم القدس في طهران فقط، إنما عبر تجارب أخرى أيضاً، في المحيط القريب لفلسطين.
تجارب عربية
في العراق، كان الشعار الدائم الحضور داخلياً وخارجياً، في قمع المعارضين والحرب ضد إيران واحتلال الكويت وقصف كردستان: القضية الفلسطينية التي هي "قضية العرب المركزية".. وعندما سقط صدام كان أول ضحايا عهده الفلسطينيون، فهوجموا من قبل من اعتبروا أنفسهم ضحايا نظام صدام، ووجدوا الفلسطينيين هناك "فشة خلق" رغم أن الفلسطينيين لم يكونوا جزءاً من النظام الأمني لصدام حسين، إنما "ديكوراً" يفاخر بهم أمام أنظمة أخرى، ليقول انظروا كيف يعيش الفلسطيني في العراق في رفاهية نسبية، فيما كان فقراء العراق، يزدادون، خصوصاً في الجنوب الغني بالنفط والفقير في إعادة توزيع العائدات، وفي بعض أحياء وضواحي بغداد.
الآن الفلسطيني في العراق.. أو من تبقى هناك، عرضة دائمة للانتهاكات، والغالبية تهجرت في الصحارى الحدودية قبل أن يحن قلب البرازيل واستراليا والسويد عليهم فينضمون الى مجتمعاتها كمهاجرين شرعيين.
في سوريا، لم ينقلب ضابط بعثي على النظام البعثي إلا وكانت فلسطين السبب، تماماً مثلما كان الانقلاب البعثي الأول على الحكومة البرجوازية تحت لافتة "دعم" القضية الفلسطينية ومحاربة الأنظمة التابعة للاستعمار. لكن ربما المطمئن في دمشق أن الفلسطيني سواسية مع السوري، وبالتالي فإن الخوف عليه إذا سقط النظام أقل.
في مصر.. غالى نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في استخدام كل مقدرات الدولة، وسحق معارضية، من أجل قضية فلسطين. بعد رحيل ناصر، انقلب الرئيس الراحل أنور السادات على الشعارات السابقة وعقد اتفاق كامب ديفيد الذي أخرج مصر من دائرة الصراع العسكري، ولاقى قبولاً شعبياً، كرد فعل على الاستخدام المفرط للقضية الفسطينية وتسخير كل الموارد العامة في سياق الإعداد لمواجهة إسرائيل عسكرياً.
حتى في السودان، عندما أرسل الرئيس عمر البشير جيشه لمقاتلة الشماليين، خطب فيهم قائلاً: إن ما تقومون به ليس فقط حرباً من أجل السودان، إنما جزء من حرب كبرى أساسها فلسطين، وأنتم تتدربون الآن لتحرير بيت المقدس.
لبنان: الجرح النازف
في لبنان الأمر أكثر تعقيداً، لكن في النهاية يبدو مشابهاً لكل ما جرى في المحيطين المباشر والقريب، من خلال الاستخدام "الايجابي" المفرط لدى بعض الفئات، والسلبي المطلق لدى فئات أخرى.
خشي المسيحيون من أن يصبح الفلسطينيون السنة بغالبيتهم مواطنون لبنانيون فيزيد عدد السنة، فحاصرهم نظام المارونية السياسية في غيتوات وأخضعهم منذ لجوئهم القسري مباشرة للحكم العسكري، فكانت مرجعيتهم منذ النكبة حتى مطلع سبعينات القرن الماضي مخابرات الجيش (المكتب الثاني) وقيدت حركتهم بين جنوب الليطاني التي تعد منطقة عسكرية في جزء منها وشبه عسكرية في جزء آخر، وبين المناطق الأخرى شمال الليطاني، كما منع عليهم نقل سكنهم من مخيم الى آخر في كل المخيمات الـ12 المنتشرة جنوباً ووسطاً وبقاعاً وشمالاً.
ثم عندما احتدم الصراع نهاية عقد ستينات القرن الماضي ومطلع سبعيناته، أصبح السلاح وسيلة لفرض الرأي، استخدم الفلسطيني كجندي لخدمة كسر المارونية السياسية، فوافق على عملية استخدامه، وذهب أبعد في محاولة ايجاد سلطة ثورية في المناطق التي سيطر عليها مع اليسار اللبناني، على شاكلة السلطات الثورية التي نشأت على هامش الثورات الفيتنامية والكمبودية وفي مناطق في افريقيا وأميركا الجنوبية وقبل ذلك في كوبا، تقليداً للنموذج اللينيني في روسيا والماوي في الصين وهو شي منه في فيتنام ونموذج كيم ايل سونغ في كوريا الديموقراطية.
النتيجة كانت كارثية على كل الأطراف: أضعفت المارونية السياسية الى حد التلاشي وتقاتل ناسها على السلطة فسقطوا جميعاً. وحكمت منظمة التحرير الجهة الأخرى من لبنان، فذابت الحركة الوطنية في البوتقة، وضعفت ثم تلاشت مع تلاشي الاتحاد السوفياتي، وفتح لبنان أمام التسويات الاقليمية والدولية وأعطيت سوريا حق الفيتو المطلق فيه الى أن خرجت في 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري بالطريقة التي باتت معروفة.
وخلال المرحلة بين 1982 و2005 استهدف الفلسطيني خلال حرب المخيمات في 1986 باسم منع العرفاتية من العودة والتحكم بلبنان، فكان أن عادت العرفاتية أقوى ولم يُحتل أي مخيم رغم الدمار الذي لحق خصوصاً بمخيم شاتيلا، ثم حورب عندما تم تركيب دولة ما بعد الطائف فجرت محاولة لفتح معارك جانبية مع المخيمات بعدما سلم الفلسطينيون السلاح الثقيل عملاً بقرار حل الميليشيات، لم تستكمل بقرار اقليمي وبسبب قرار فلسطيني بالمواجهة، حتى أن اغتيال الرئيس الحريري أريد ربطه بالفلسطينيين من خلال فبركة شريط فيديو أحمد أبو عدس، الفلسطيني البسيط، وهو أمر ثبت بالتحقيق أنه مسعى للتعمية على الفاعل الحقيقي، وبعد الخروج السوري جرت محاولات لربط الفلسطيني بالصراع، لكن رفض كل الفصائل واللاجئين الفلسطينيين أنفسهم للعب أي دور في الصراع، حال دون ذلك.
يمكن فهم قضية نهر البارد من منطلق الاستخدام السلبي للفلسطيني، حيث جرى تركيب "فتح الإسلام" في المخيم، ليكون نواة تحرك ضد المحيط وبهدف إقامة إمارة إسلامية سنية، تبرر حرباً طائفية، وتثبت عدم قدرة لبنان على حكم نفسه. كادت المؤامرة أن تنجح لولا تنبه الفلسطينيين، ورفضهم هذا الاستخدام وقرار إخلاء المخيم، لأول مرة طوعاً وبلا معركة مع أهله، وحصرها بـ"فتح الإسلام" الغريبة عن نسيج المخيم ومحيطه، ما سهل حسم المعركة وصنع الجيش اللبناني انتصاره هناك. لكن المؤسف أن ما بعد حسم المعركة جلب معه إجراءات قمعية طاولت الفلسطينيين الذين مكنوا من صنع النصر، ما يجعل أي تعاون مستقبلي مع القوى الشرعية اللبنانية أمر مشكوك فيه فلسطينياً.
عندما تمكنت قوى 8 آذار من السيطرة على الشارع ومنعت التغيير الذي كانت تقوده قوى 14 اذار، وشُن عدوان 2006 الإسرائيلي عقب عملية أسر الجنود التي قام بها "حزب الله" خلف الخط الأزرق، استثني الفلسطينيون نسبياً من عملية الاستخدام وبات الحديث عن السلاح خارج الخيمات اسماً رمزياً للحديث عن السلاح التابع لسوريا في لبنان أكثر منه حديث عن سلاح فلسطيني.
لكن فشل قوى 8 آذار في الانتخابات النيابية في نيل الأكثرية، أعاد مجدداً فكرة استخدام الفلسطينيين ورقة في اللعبة الداخلية، فعمد العونيون الى الإكثار عن الحديث عن مؤامرة التوطين لمواجهة خصومهم السياسيين في الداخل، ثم رفعوا شكوى لمجلس شورى الدولة بزعم وجود آثارات في مكان بناء مخيم نهر البارد ما أوقف عملية إعادة البناء، علماً أن الهيئة العليا للآثار سمحت بطمر المكتشفات كونها عادية، ما أشعر الفلسطينيين بأنهم ملاحقون مجدداً.
هناك رأي سائد في الوسط الفلسطيني أن الفلسطينيين في لبنان لن يبقوا فيه دقيقة إذا خيروا بين الهجرة والبقاء، ويستندون الى استطلاع على عينة كبيرة أظهرت أن من يرفضون الجنسية اللبنانية أكثر قليلاً من 94% ومن يفضلون الهجرة الى أوروبا وأميركا الشمالية واستراليا يفوقون الـ80%، وأنهم باتوا مقتنعين أكثر من أي وقت مضى أن استخدامهم "الايجابي" المفرط والسلبي المطلق صب على الدوام في مصلحة إسرائيل، وما يجري الآن، خصوصاً من خلال تضخيم الحديث عن التوطين، إنما هو فائدة إسرائيلية صرفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق