الثلاثاء، 20 يوليو 2010

تركيا.. روح أتاتورك ودينامية "العدالة والتنمية"

المستقبل - الثلاثاء 13 تشرين الثاني 2007 - العدد 2791 - شؤون عربية و دولية - صفحة 15


http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=260919


أنقرة ـ أنيس محسن
على إحدى تلال أنقرة الكثيرة الموغلة في قلب الأناضول يطل ضريح مؤسس تركيا كمال أتاتورك وكأن روحه تراقب كل خطوة لعاصمته المحببة.
على التلة تلك، تجتمع الحكاية في لوحات وموسيقى تصويرية تحكي تاريخ أهم المعارك التي خاضها الجيش التركي ضد البريطانيين حين أرادوا تقليص مساحة السلطنة العثمانية الى أدنى مساحة ممكنة، وحشرها في مركز السلطنة في وسط الأناضول، لكن كلمات أتاتورك: "ليس مهماً أن نهزم في معركة ما.. المهم ألاّ نهزم من داخلنا"، تتردد الى الآن، وتجعل أنقرة تتجه نحو المستقبل، أحياناً ببطء، لكن دائماً بتصميم.
العاصمة تكبر جغرافياً وتمتد أكثر، وسكانها يكثرون ويزدادون الى أكثر من 4.5 ملايين، لكن العاصمة الهادئة، تضج بالحركة.
الجمعة الماضي استقبلت خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وأول من أمس الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس، وأمس الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
إنه الانفتاح المحسوب على الخارج، الملتزم علاقات بالجميع، والمنادي بـ"سلام مع الخارج وسلام في الداخل"، وفق أحد مبادئ أتاتورك التي يرددها الجميع عندما تسأل عن الهدف من انفتاح كهذا.
إذاً، هو "الانفتاح غير المنحاز" على الخارج، الساعي، بدعوة يوتوبية، الى أن يحل الشرق الأوسط، حيث تداخل كبير مع تركيا، كل مشكلاته ويحيا باستقرار، فالاستقرار هذا مصلحة مباشرة لتركيا، كما يردد الجميع هنا.
لكن ماذا عن الداخل، أليس ما حدث منذ مجيء حزب "العدالة والتنمية" الى السلطة، هو تطوّر نوعي، وهل يمكن الحديث عن جمهورية ثانية في تركيا؟
يعترف المثقفون الأتراك بأن شيئاً كبيراً حدث، ويرفض بعضهم أن يكون الأمر بمثابة انقلاب على مبادئ جمهورية أتاتورك العلمانية، فيما يتخوّف كثير من العلمانيين (الكماليين) من الأسلمة بطرق شتى.
التغيير حدث، هذا صحيح، لكن من ضمن المبادئ العامة.. العلمانيون رضخوا للعبة الديموقراطية التي جاءت بقادة جدد ذي أصول إسلامية، لكن هؤلاء أيضاً رضخوا لمبادئ الجمهورية وقبلوا الآخر، بل هم انقلبوا على أساتذتهم، فالأسلمة، المرفوضة من العلمانيين، غير مطروحة في أجندة "العدالة والتنمية"، كما يقول الحزب. المعادلة هي: نحن نقبل العلمانية، بل ندعمها، وعلى الآخرين عدم النظر إلينا كأعداء محتملين، وأن يثقوا بأننا جزء من الأمة، ومن العملية السياسية التي تحكمها قواعد باتت بمثابة المنارة للجميع.
لكن ما الذي يحمي تركيا من النزاع بين العلمنة والخوف من الأسلمة؟ إنهم الأتراك أنفسهم، الذين لم يتخلّوا عن مبادئ العلمانية، لكنهم اختاروا ثلاث مرات "العدالة والتنمية"، ليس أخذاً بأصول قادة الحزب، بل لأن مصلحة الشعب والبلاد تقتضي التغيير وإعطاء الثقة لمن استحقها.
الأتراك هؤلاء لم يتخلوا عن علمانيتهم، مثلما لم يتخلوا يوماً عن كونهم شعباً مسلماً. وعندما يعطون الثقة "للإسلاميين السابقين" فإن هاجسهم وطني مدني علماني.
في الفترة الأخيرة عاشت البلاد حدثين خارجيين: العمليات التي نفذها حزب "العمال الكردستاني" انطلاقاً "من شمال العراق"، كما تؤكد أنقرة، وطرح مشروع قانون في إحدى لجان مجلس النواب الأميركي حول "المجزرة بحق الأرمن" التي ينفي الأتراك حدوثها، أو على الأقل الصيغة التي يجري تصويرها بها.
خلال الأزمتين، تحركت الحكومة، وتوحّد الجيش، المدافع عن العلمانية، والشعب مع حكومته. وتحقق نجاح ديبلوماسي كبير. واشنطن تراجعت عن التصويت على مشروع القانون، ودول الجوار التركي ـ العراقي، وحتى كثير من دول العالم تضامنت مع تركيا وحقها في الردّ، مع تمنّي أن يصاغ الرد بواقعية. حدث ذلك في وقت كانت تركيا تستعد للاحتفال بيومها الوطني، فكانت المشاعر في الشارع خير معبّر عن الوحدة.
العاصمة تغيّرت قبل الاحتفالات وخلالها وبعدها الى اللون الأحمر، فأعلام البلاد الحمراء يتوسطها الهلال والنجمة غطّت الشوارع والمباني، ليس الحكومية فقط، بل الشقق السكنية المزدانة بالأعلام، وواجهات المحال التجارية.. لا أحد طلب من المواطنين أن يقوموا بذلك، هم من قرر ذلك، وعدد الأعلام التي بيعت في تلك الفترة، فاقت كل الأوقات السابقة.
يقول المثقفون هنا، إن حارس الجمهورية ليس الجيش القوي المهاب، بل الشعور الوطني لدى الأتراك، فهم الحاجز الحقيقي أمام انحدار الجمهورية نحو آفاق غير مرغوبة، وهم حراس العلمانية الحقيقيون.
لا يختلف في الرأي هذا مؤيدو حزب "العدالة والتنمية"، بعضهم قال إن الحزب أتى من رحم حزب "الرفاه" لكنه خطى قُدماً، واختار الديموقراطية، بما هي تبادل للسلطة واحترام للمؤسسات، وطرح مبدأ حرية المعتقد لدى الفرد على أساس احترام الدستور والدفاع عنه. لذلك حقق نصراً عندما انتخب أولاً، ثم عندما زاد التأييد له في الانتخابات الثانية، وثالثاً عندما قرر الأتراك أن تَقَدّم البلاد يحتاج استقراراً سياسياً، فأعطوا "العدالة والتنمية" القدرة على تشكيل حكومة لوحده، والرئاسة أيضاً.. وهذا يضع "العدالة والتنمية" أمام مزيد من التحديات، بأن يحقق الازدهار الذي وعد به.
على الأرض، يبدو أن ما تم إنجازه يشبه المعجزة. فقد تولى "العدالة والتنمية" الحكم والبلاد في أزمة مالية اقتصادية عظيمة، أحالت عملة البلاد الى مجرد أوراق بلا قيمة. وبعد 7 سنوات، تقول النتائج إن النمو الاقتصادي في السنوات اللاحقة فاق الـ6% فيما كان عند الأزمة سلبياً. كما نما حجم الاقتصاد 3 أضعاف ما كان عليه قبل الأزمة. والليرة الجديدة أصبحت تصرف بسعر دولار أميركي تقريباً، وأمكن تدبير وظائف لمئات آلاف العاطلين عن العمل، وانفتحت أمام البلاد أسواق جديدة، ودقّت أنقرة أبواب الاتحاد الأوروبي متحدية.
صحيح أن أبواب أوروبا لم تفتح كلها بعد أمام دولة الـ70 مليون مسلم "العلمانية، لكن لا بأس: يقول سياسيون ومثقفون كثراً، فما على أنقرة أن تفعله لاستحقاق عضوية الاتحاد الأوروبي، يجب أن تفعله.. الإصلاحات الاقتصادية والتشريعية المطلوبة لتحقيق المعايير الأوروبية ضرورة وطنية، وليست ذريعة لـ"الأوربة" التي أرادها أتاتورك.. تلك الإصلاحات جاذبة للاستثمارات وتحقق العدالة والتنمية، فلما ترفضها تركيا؟ وفي آخر المطاف، فإن تركيا بوابة الشرق نحو أوروبا، وبوابة الغرب نحو الشرق، وهي حاجة للجهتين، وهي تعي تماماً موقعها، من دون أن يأخذها ذلك الوعي نحو الغرور.
عند غروب يوم، وعلى قمة تلك التلة حيث ضريح أتاتورك، وفي درجة حرارة منخفضة، كانت عائلات وشبان وشابات يجولون الموقع، يشاهدون حكاية الصمود في الحرب العالمية الأولى، ويقرأون سيرة ومبادئ مؤسس الدولة، ويهبطون نحو العاصمة، للراحة قبل يوم عمل آخر، فيما العاصمة تستقبل بعد أيام ضيوفاً كثراً، من الشرق الأوسط المشتعل والحزب الذي اختير من خارج المألوف منذ تأسيس الدولة العلمانية يدير الحركة داخلاً وخارجاً مطمئناً الى أن زائري الضريح، هم أنفسهم من اختاروه، وهم حماة الدستور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق