الأحد، 25 يوليو 2010

حقوق الإنسان الفلسطيني: في ضبط التباس المصطلحات والأرقام والتواريخ

المستقبل - الاحد 25 تموز 2010 - العدد 3721 - نوافذ - صفحة 11



أنيس محسن
المراقب لدفق التصريحات منذ أن طرح اللقاء الديموقراطي النيابي بزعامة رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط أربعة اقتراحات قوانين حول الحقوق الإقتصادية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين أمام الجلسة التشريعية العامة في مجلس النواب اللبناني في 15 حزيران (يونيو) الماضي بصفة معجل مكرر، يمكنه أن يستنتج، بلا عناء، البعد السياسي، أولا وأخيرا، للردود المتوترة ازاء الموضوع. لكن ما يمكن ان يثير الدهشة تلك الأخطاء الهائلة في استخدام المصطلحات والأرقام والخروج بنتائج لا تقل خطأ وخطيئة عن الاستخدامات الخاطئة نفسها.
يمكن القفز قليلاً عن منطق الأمور واعتبار ان البعض، نواباً أو مسؤولين في الأحزاب، أو حتى بعض الأكاديميين، يجهلون مصطلحات حقوق الإنسان وكذلك الأرقام الصحيحة والوقائع الزمنية المتعلقة بالمسألة قيد البحث، لكن أغلب من يكثر من الاستخدام الديماغوجي للمصطلحات والنتائج المزعومة للحقوق، إنما يقترف إثم التزوير الشكلي والموضوعي عن سابق اصرار وترصد، غير عابئ بالمصلحة العامة اللبنانية اولا والفلسطينية ثانيا ولا بالمصلحة الخاصة ذات الصلة بالطائفة التي يدعي الدفاع عنها.
وقبل ولوج عملية دحض المزاعم تلك، لا بد من الإشارة إلى أنه في التوقيت الزمني، فإن طرح حقوق الفلسطينيين لم يبدأ مع مقترحات قوانين جنبلاط (حاول البعض ان يعطيها زمنا راهنا لربطها بمؤامرات خارجية)، إنما بدأ منذ العام 1995 حين نشرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أواخر تموز (يوليو) وثيقة أطلقت عليها إسم: "فلسطينيو لبنان وخيار المصالحة التاريخية مع الذات والاخرين". ثم، بعد 13 عاماً مع "إعلان فلسطين في لبنان" لمنظمة التحرير في 9 كانون الثاني (يناير) 2008، وبينهما سلسة ورش عمل ومؤتمرات ونشاطات وحملات لمنظمات المجتمع المدني الفلسطيني واللبناني والدولي المقيم في لبنان، حول حقوق العمل والتملك، اعتبارا من اقرار قانون التملك للأجانب في العام 2001 الذي حرم الفلسطيني من ملكية منزل للسكن وحتى من تسجيل ملكه او توريثه، وصولاً الى مسيرة الحقوق المدنية في 27 حزيران (يوليو) الماضي.
ضبط المصطلحات والأرقام
لا بد، في البداية، من الوقوف أمام المصطلحات الحقوقية الانسانية التي استخدمت بغير مضمونها والأرقام التي رميت على عواهنها من دون حسابات، اذ أن البعد السياسي في الأمر يتضح من خلال تشريحها، علمياً ومنطقياً.
1 - في المصطلحات:
استخدم معارضوه كما بعض مؤيدي حقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، مصطلحات حقوق الانسان، المشروحة ضمنا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان وفي العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالحقوق المدنية والسياسية، وفي كل الاتفاقيات والمواثيق ذات الصلة بحقوق الانسان، استخداما يسئ الى تلك المفاهيم.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر، لطالما استُخدم مصطلح "الحقوق الإنسانية" Les droits de lhomme (وهو استخدام موجود ايضا في البيان الحكومي لحكومة الرئيس سعد الحريري)، على انه "الحقوق الأساسية" Les droits fondamentaux، في سياق خاطئ عمدا أو عفوا، اذ أن الحقوق الانسانية هي ذاتها "حقوق الإنسان" Droits de lHomme، وتتضمن بالتالي كل الحقوق: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، فيما الحقوق الأساسية ترد في نظرية العالم إبراهام مازلو والتي تناقش ترتيب حاجات الإنسان وقد وضعها في ترتيب هرمي يبدأ بالحاجات الأساسية اللازمة لبقاء الفرد، وهي: الحاجات الفسيولوجية وحاجات الأمان والحاجات الإجتماعية والحاجة للتقدير والحاجة لتحقيق الذات.
عندما يتحدث بعض المسؤولين الرسميين او الحزبيين عن الحقوق الإنسانية، فإن ما يقصدونه، وهذا من خلال الشرح الذي يقدمونه لما يفهمونه من تلك الحقوق، انما هي ما يضعه مازلو في أول سلم الاحتياجات، أي الحاجات الفسيولوجية مضافا اليها بعض عناصر الحلقة الثانية من الهرم، اي المكان الذي يؤوي وليس التملك. وأحيانا يكون المقصود من مصطلح الحقوق الإنسانية: المساعدات الإنسانية Laide humanitaire وهي لا تندرج بأي شكل من الأشكال في مصطلحات حقوق الإنسان الواردة في كل من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيره من المواثيق الدولية، التي تضمن في مقدمة الأشياء كلها حق الشعور بالكرامة الإنسانية La dignité humaine.
في مقابل الأخطاء المقصودة او العفوية لاستخدام معارضي الحقوق الفلسطينية لمصطلحات حقوق الإنسان، ينبري مؤيدون لبنانيون، بل مطالبون فلسطينيون، سواء كانوا سياسيين او ناشطين مدنيين، في استخدام خاطئ ايضا، حيث يطرحون مصطلح "الحقوق المدنية" Les droits civils، فيما المقصود الحقوق الإقتصادية والإجتماعية les droits socio-économiques، غير مدركين ان الحقوق المدنية تتضمن كل العناصر التي تقود الى التوطين، المرفوض فلسطينيا كونه يناقض حق العودة المنصوص عليه في القرار الدولي 194، والمحرم لبنانيا كون مقدمة الدستور اللبناني تنص صراحة على رفض التوطين.
فالحقوق المدنية تندرج ضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وهي حقوق دستورية للدولة. وتنص المادة 25 من العهد في البند 3 على "أن يَنتخب (الإنسان/المواطن) ويُنتخب، في انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري، تضمن التعبير الحر عن إرادة الناخبين".
هذا الحق لا يطلبه الفلسطيني، ولا يعطيه اللبناني، اذ أن الأول متمسك بحق العودة والثاني برفض التوطين، ويتوجب، بناء عليه، عدم استخدام الحقوق المدنية، والاكتفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية - الاجتماعية والثقافية، والتي تنص في المادة السادسة على "الحق في العمل، الذي يشمل ما لكل شخص من حق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وتقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق".
2 - في الأرقام:
ما نحن بصدده حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية حصرا للاجئ الفلسطيني، جزء منها يؤمنه مورده الناتج عن الضرائب والرسوم التي يدفعها من صلب مدخوله، وجزء آخر المجتمع الدولي الملزم فيه كونه مسؤول عن نكبة الفلسطيني وتهجيره من أرضه، وذلك عبر وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين (الأونروا)، وقسم ثالث عبر التحويلات المالية للفلسطينيين العاملين في الخارج الى ذويهم في لبنان. أي لن تكون هناك تكاليف على الخزينة اللبنانية.
ما هو وارد أعلاه يقود الى تفاصيل رقمية عن حقيقة ما يتداول في بعض الأوساط ويشاع عن تكاليف ستتحملها الخزينة اللبنانية. فقد تكفلت "الأونروا" والصليب الأحمر الدولي منذ لحظة لجوء الفلسطينيين الى لبنان بتأمين كلفة إيواء اللاجئين وإطعامهم، ولاحقا بنت "الأونروا" المنازل على أراض استأجرتها ودفعت قيمة ايجاراتها نقدا، كما بنت المدارس والعيادات الطبية فأمنت من موازناتها التعليم والطبابة، أما الإستشفاء فتعاقدت مع المستشفيات اللبنانية الخاصة وبالتالي لم يستسشفي الفلسطيني على حساب الخزينة اللبنانية يوما واحدا. ومن دون ان نلجأ الى استخراج مجموع ما صرفته "الأونروا" بدقة في لبنان، فإن الرقم يتجاوز عشرات مليارات الدولارات.
واعترافاً بأن العنصر الفلسطيني أساء لنفسه كما للبنان بمشاركته في الحرب الأهلية اللبنانية، الناتجة عن تصارع طائفي يمتد عميقا في تاريخ لبنان حتى قبل ان تتبلور كيانات ما بعد سايكس - بيكو ويمكن رصد 3 حروب طائفية في اعوام 1840 و1860 و1958، بالتأكيد ليس للفسطيني دور فيها. اذا ينبغي الاعتراف بتلك الإساءة، لكن ما هو معروف أيضا أن منظمة التحرير كانت تصرف في لبنان شهريا اكثر مما تنفقة الخزانة اللبنانية على مدى نحو 7 سنوات على الأقل من العام 1975 وحتى العام 1982، والدليل أن سعر صرف الليرة حافظ على مستوى عال الى ان خرجت مؤسسات منظمة التحرير من لبنان فانهارت العملة اللبنانية تماما.
اذا اراد المرء احصاء ما سبق عليه ان يحصيه من خلال قيود الحسابات المحفوظة. لكن ما لا يمكن احصاؤه على وجه الدقة، بل انه يقدر بمئات مليارات الدولارات، الواردات الناشئة عن تحول ميناء بيروت ومطارها الى مقاصد تجارية وترانزيت بعدما اقفلت موانئ فلسطين وخصوصا حيفا ومطار اللد جراء مقاطعة الدول العربية لإسرائيل، ومد انابيب النفط من رأس تنورة في السعودية الى الزهراني ومن الموصل في العراق الى طرابلس بدل مصفاة حيفا، واحتلال مصارف لبنان مكانة مصارف فلسطين، علما ان الرأسماليين الفلسطينيين كانوا اخرجوا اموالهم من فلسطين وأنشأوا عشرات المؤسسات الخدماتية والمصرفية والمصانع وخلافه في لبنان.
أما ما لا يمكن تقديره بثمن، فمساهمة الأكاديميين والفنانين الفلسطينيين في النهضة التربوية والفنية في لبنان، حيث في كل مكان لفلسطيني اثر.
خلاصة القول ان الخزانة اللبنانية لم تتكلف يوماً شيئاً على الفلسطيني، بل كان الوجود الفلسطيني احد عوامل ملء تلك الخزائن. والأمر لن يتغير بل سوف يكون افضل في حال سمح للفلسطيني بالعمل قانونا في لبنان، وهذا سوف يكون محل إثبات في فقرات لاحقة.
قبل محاولة حصر العدد الحقيقي للاجئين الفلسطينيين الذين لا يزالون يقيمون على الأرض اللبنانية، يجب التذكير بأنه عند النكبة، لجأ مئة ألف فلسطيني ونيف الى لبنان، ومعهم مئة الف لبناني: لم يكونوا سياحاً في فلسطين انما كانوا بغالبيتهم، عمالاً وبينهم بعض أصحاب الرساميل.
لكن عودة الى الحاضر: تقول ارقام الاونروا ومديرية الشؤون السياسية التابعة لوزارة الداخلية ان عدد الفلسطينيين المسجلين في سجلاتهما من فئتي لاجئي الـ48 ومطلع الخمسينات وفي الـ67 ومن بقي من الداخلين الى لبنان بين اعوام 1970 و1982 يتراوح بين 450 الفا و550 الفا على وجه التقريب.
لكن هذه الأرقام لا تأخذ في الاعتبار انه تم في نهاية خمسينيات القرن الماضي وبين 1962 و1964 وفي مرسوم تجنيس 1993، تجنيس نحو مئة الف فلسطيني هم غالبية من مسيحيي وشيعة فلسطين اللاجئين الى لبنان وعدد قد يوازيهما من السنّة. هؤلاء يجب انقاصهم من العدد الإجمالي.
كما ان هناك عددا كبيرا من اللبنانيين الذين عادوا من فلسطين تسجلوا في سجلات "الأونروا" كلاجئين ولا تزال قيودهم موجودة في تلك السجلات. يجب ايضا انقاصم من العدد الاجمالي.
ولا يوجد احصاء دقيق لمن هاجر من الفلسطينيين الى اوروبا واميركا او من يعمل في بلدان الخليج العربي واستقر فيها. لكن يمكن الاستدلال من كون غالبية سكان مخيم تل الزعتر المدمر، وهو كان اكبر مخيمات لبنان، هاجروا فعلا بين العام 1976 والعام 1986 ومثلهم سكان مخيمي جسر الباشا وضبية ونحو نصف عدد سكان المخيمات الباقية ومن يعيشون خارج المخيمات. اما مخيم نهر البارد، ثاني اكبر مخيمات لبنان بعد عين الحلوة، فقد كشفت الحرب التي دمرته ان عدد سكانه لم يلامس الثلاثين الفا، وثمة من يرى ان عدد سكان عين الحلوة لا يتجاوز الـ50 الفا. أما باقي المخيمات، وهي صغيرة، فلا تتجاوز كلها 50 الفا. واقل من هذا العدد قليلا موجود خارج المخيمات. ولنقل انهم مئة الف، فيكون عدد اللاجئين في لبنان اقل من 250 الفا. وبكل الاحوال فإن التقديرات تشير إلى أن عدد الفلسطينيين يراوح بين 180 الفا و240 الفا. اما سبب التمسك بالأرقام الدفترية في قيود الاونروا ومديرية الشؤون السياسية واللاجئين، فهي للتهويل وتبرير الاتهام بالعمل على توطين الفلسطينيين، وسوف نكون امام نقض تلك المزاعم لاحقا.
ضبط التواريخ والوقائع
استخدم معارضو حقوق الفلسطينيين مرحلة ما بين 1969 و1982 التي روجعت فلسطينيا وانتقدت، للتعميم بهدف تحميل الفلسطينيين كل المسؤولية عما حصل قبل وبعد، لكن التاريخ لم يبدأ بين هاتين السنتين ولم ينته بهما.
السؤال هو: هل امتلك في حينه الفلسطيني كل تلك القوة لتغيير واقع يراد القول انه كان راسخاً لولا وجود الفلسطينيين، وهل يؤدي اعطاء الحقوق، وهي عملية طبيعية واخلاقية، الى تقويض لبنان مجددا؟
باختصار، شهد لبنان قبل ان يطأ أي فلسطيني مشاكل جمّة في 1845 و1860 و1958، لكن لم يكن للفسطينيين قدم او ساق في تلك الأحداث.
وبكل الأحول فإن العامل الفلسطيني لم يكن يوما عنصر صراع في تركيبة لبنان، قبل نهاية ستينيات القرن الماضي ومطلع سبعينياته، وما حصل كان أن السلطة المركزية ضعفت في لبنان، ما سمح بدخول الفلسطينيين مدعومين من الانظمة العربية المهزومة في ما يسمى دول الطوق التي لم ترد حربا جديدة مع اسرائيل من حدودها، ومن بعض القوى اللبنانية التي رأت في هذا الدخول امكانية لتحقيق نصر على الطرف الآخر. فاختلط الحابل بالنابل، وبات الفلسطينيون العامل الأقوى في البلاد، ويشاركهم السوريون تلك السيطرة، ثم التفرد بها.
اذا في التواريخ والوقائع، لم يكن للفلسطينيين من تأثير سوى في مرحلة لا تتعدى 12 سنة (1970 - 1982) فيما كان للسوريين تأثير في مرحلتين الاولى امتدت من 1976 الى 1982 والثانية من 1986 الى 2005، وكان اكثرها تأثيرا بين 1990 و2005. ودخول العاملين الفلسطيني والسوري انما جاء من انقسام لبناني على الهوية اساسا، بدأ مع الاستقلال في 1943 وخبا عقدا وبعض العقد قبل ان يعود اعتبارا من 1958، صعودا احيانا وهبوطا في احيان اخرى.
معزوفة التوطين المملة
بات التوطين هاجسا مرضيا في لبنان، وتعبيرا يستخدم بأبعاد عنصرية تطاول الفلسطينيين حصرا، وكأن التعبير هذا وضع في اللغة خصيصا للدلالة على "الخطر الفلسطيني" من "الوطن البديل" الذي يعمل عليه الفلسطينيون بدعم من المجتمع الدولي.
أولاً في التعبير لغوياً، التوطين أو إعادة التوطين يعني بالانكيزية Settling، وبالفرنسية sédentarisation ومعناه: اقامة أو نقل مجموعة من الناس في بلد أو من بلد الى بلد اخر واسكانهم في غير موطنهم الأصلي. ولا يحمل فعل التوطين بالضرورة اعطاء الجنسية (المواطنة) للمُوَطّنين ويقع في ترتيب حقوق الانسان ضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .اما المقصود سياسيا بتعبير "التوطين"، لبنانيا في ما يبدو، هو التجنيس، والتجنيس Naturalization أو Naturalisation هو اكتساب المواطنة (الجنسية) في بلد ما، علما ان المواطنة لا تسقط بفعل الانتقال من بلد الى بلد آخر وهو يقع ضمن الحقوق المدنية والسياسية.
يحرم الدستور اللبناني في مقدمته التوطين، كما أن كل برامج ومواثيق منظمة التحرير والفصائل تؤكد على حق العودة، إن وفقا للقرار 194 او بغض النظر عنه. وقد نص اعلان فلسطين في لبنان على رفض التوطين صراحة. وعندما زار الرئيس محمود عباس، وكذلك مبعوث السلام الأميركي لبنان في الفترة الأخيرة، شدد كل منهما للجميع ان لا حل للقضية الفلسطينية على حساب لبنان وان لا توطين على ارضه.. ألا تكفي تلك التطمينات بالتالي؟
ان اغرب ما يمكن ان يسمعه انسان هو القول ان "ترفيه" الفلسطينيين يجعلهم يتمسكون بالبقاء في لبنان وعدم العودة الى وطنهم. ويستخدم هنا شعار "حق العودة" على انه "رفض التوطين". لكن هل حق العمل والسكن هما "ترفيه"؟
ان الرفاهية وفق ترتيب مازل تقع في النسقين الرابع والخامس من هرم الاحتياجات، فيما حق العمل والسكن يقعان في النسقين الأول والثاني من الهرم المؤلف من 5 مراتب. فأين الرفاهية في حقوق لا تتعدى الأساسيات؟
من الوقائع المشوهة ايضا ما قيل عن المخيمات - "البؤر الأمنية". السؤال هو من يحاصر المخيمات تلك كيف يسمح بدخول مجرمين ومحكومين وارهابيين اليها، فالمخيمات اجمالا محاصرة منذ ما بعد حرب المخيمات في 1986، اليس السؤال الكبير هو هل من سبب لا علاقة بالمخيمات فيه يجعل الكثيرين ومن مشارب وانتماءات وولاءات مختلفة يصرون على بقاء المخيمات "بؤرا امنية"؟.
في تصحيح الوقائع: بعد قرار حل المليشيات مطلع تسعينيات القرن الماضي، بادرت الفصائل الفلسطينية الى تسليم سلاحها الثقيل والمتوسط في المخيمات الى القوى الأمنية اللبنانية أو الى فصائل المقاومة وخصوصا "حزب الله"، وانسحبت المجموعات العسكرية من قواعدها في اقليم التفاح وسلمتها مع السلاح الى الجيش اللبناني، وعادت الى المخيمات، قبل ان يستولي "حزب الله" على تلك المواقع من الجيش اللنباني وليس من الفصائل الفلسطينية. ومن وما بقي خارج المخيمات ليس للفلسطيين دخل فيه وان كانت اليافطة المعلقة على تلك المواقع هي فلسطينية، وبالتالي هو سلاح اقليمي مسؤولية ازالته تقع على اللبنانيين الذي اقروا سحبه في اطار مقررات طاولة الحوار التي لم تنفذ ليس، بالتأكيد، بسبب ممانعة الفلسطينيين. ان حل هذه المسألة قرار وطني لبناني - اقليمي، وليس للفلسطينيين بالتالي تأثير فيه.
ومن المزاعم التي سمعت خلال فترة الهجوم على الحقوق الفلسطينية الاساسية في لبنان، ان الفلسطينيين هم من اساؤوا بحق انفسهم عندما خرجوا عن طوع الدولة.. للتذكير، كانت المخيمات قبل 1969 تدار امنياً ويكفي دركي واحد وعنصر من المكتب الثاني ان يحكم مخيماً بكامله. كان ممنوعاً على الفلسطيني الانتظام في الاحزاب او تشكيل حزب او احياء مناسبة مثل النكبة او التقسيم، وكان المنهاج المدرسي يغيب عنه التاريخ الفلسطيني كليا. كان على ساكن المخيم تقديم طلب للسماح بزائر له من خارج المخيم ان يزوره، وكان ممنوعا على ساكن المخيم ان يبني سقفا اسمنتيا فكانت كل المنازل بسقوف من "الزينكو". لم يكن المخيم "غيتو"، بل سجناً بكل ما لكلمة سجن من معنى. كان الفلسطيني القاطن جنوب نهر الليطاني ممنوعاً من التوجه شمالاً بلا تصريح من مخابرات الجيش، وكان ممنوعاً على الفلسطيني القاطن شمال النهر ان يتوجه الى جنوبه بلا تصريح، وكان ممنوعاً ان ينتقل الفلسطيني من مخيم الى اخر الا بعد موافقة امنية لبنانية!!
لقد صرح الرئيس فؤاد شهاب بعد سنوات من تركه الحكم بأنّ "الإجراءات اللبنانية القاسية ضد الفلسطينيين"، في عهده، وعهد خلفه الرئيس شارل حلو، "كانت نتيجة سياسات مخططة مسبقاً وجاهزة"، وأضاف: "(...) لقد وضعت هذه السياسة، وأعطيت أوامر مشددة إلى ضباط الأمن، خصوصاُ في الجنوب، وفي المخيمات، وفي البلدات الحدودية". وشهاب والحلو حكما في الفترة من 1958 الى 1970.
مراجعة الذات تحتاج الى آخرين
سعى الفلسطينيون الى تقييم التجربة في لبنان في وقت مبكر، ليس فقط بهدف تعيين مكامن الخلل، انما لعدم تكرارها والخروج بالتالي من الاستقطابات التي يزخر لبنان بها.
في اواخر تموز (يوليو) 1995 اصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - فرع لبنان وثيقة تحت عنوان "فلسطينيو لبنان وخيار المصالحة التاريخية مع الذات والاخرين"، تضمنت مراجعة مبكرة وجريئة ووزعت بشكل محدود لبنانيا وفلسطينيا ونشرت كاملة في صحيفة النهار، ويمكن اقتطاف بضع فقرات منها.
تقول الوثيقة (ص 9 الفقرة الثانية) "ان واجب اي فلسطيني مخلص لفلسطينيته ان يضع في أول اهتماماته مصلحة البلد المضيف وسيادة القانون... القانون ليس ببعده القمعي (...) بل القانون بمعناه الشامل وتحديدا لناحية كرامة الانسان وحقوقه اياً كان الانسان".
وتؤكد ان "صاحب الوطن (...) له الحق كاملا في السيادة، والضيف (...) له الحق كاملاً في الكرامة والعدالة. ان عاقلا لا يستطيع ان يرى تناقضاً، ومن يدفع الأمور عكس ذلك، فإنه ولربما، من حيث لا يدري يضر نفسه قبل أن يضر غيره" (ص 10 الفقرة 3).
ويذكر ان الوثيقة استحوذت على اهتمام الكثير من المثقفين لكن خصوصا اليساريين ولم تلق اهتماما لا رسميا ولا من الطرف الاخر المعني بالمسألة الفلسطينية في لبنان.
في 9 كانون الثاني (يناير) 2008 صدر "إعلان فلسطين في لبنان" وقال ان "الانصاف يقتضي القول ان ذلك الوجود الفلسطيني في لبنان، بحجمه البشري والسياسي والعسكري، قد اثقل كثيرا على هذا البلد الشقيق ورتب عليه اعباء فوق طاقته واحتماله، وبالتأكيد فوق نصيبه المعلوم، من واجب المساهمة في نصرة القضية الفلسطينة (دولة مساندة) الامر الذي اصاب دولته واقتصاده واجتماعه الانساني وصيغة عيشه اصابات بالغة ما عادت خافية على احد. كذلك من الانصاف القول ان التورط الفلسطيني في لبنان، على نحو ما شهدنا، وبخاصة في اثناء حروب 1975 - 1982، انما كان في مجمله قسريا بفعل ظروف داخلية وخارجية اشبه ما تكون بالظروف القاهرة".
وتعلن وثيقة منظمة التحرير "التزامنا الكامل، بلا تحفظ، سيادة لبنان واستقلاله، في ظل الشرعية اللبنانية بجميع مكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن دون اي تدخل في شؤونه الداخلية" و"تمسكنا بحقنا في العودة الى وطننا فلسطين، رافضين بحزم وثبات جميع اشكال التوطين والتهجير. والى ان نعود من حقنا ان نعيش بكرامة."
وتؤكد ان "السلاح الفلسطيني في لبنان، ينبغي ان يخضع لسيادة الدولة اللبنانية وقوانينها، وفقا لمقتضيات الامن الوطني اللبناني الذي تعرفه وترعاه السلطات الشرعية".
وتتمسك الوثيقة "بحقوقنا الاساسية، كلاجئين مقيمين قسرا ومؤقتا في لبنان، وكجزء من شعب فلسطيني يكافح من اجل حريته واستقلاله على ارضه. ان حقوقنا هذه غير مشروطة بقضية السلاح، ولا نفكر في اي معالجة بأسلوب المبادلة".
ان هذه المراجعات تحتاج الى مراجعة مقابلة، علمية ودقيقة عن الدور الفسطيني في الحرب الأهلية اللبنانية، وحول كل الوجود الفلسطيني في لبنان، عسكريا في مرحلة سبعينيات القرن الماضي، ومدنيا قبل وبعد ذلك.
تلافياً للإنفجار
بعيدا عن الاقتصاد والسياسة والسجالات الفارغة، فإن اعطاء الفلسطينيين حقوقا مستحقة لهم، سوف يخفف من امكانية الخرق الامني للمخيمات وللشباب الفلسطيني من قبل قوى متطرفة تتخذ من الأماكن المهمشة مسرحا لها.. ولو استمر الوضع على حاله فسوف تكون المخيمات رقعة مثالية للتطرف. اما مسألة "فتح الاسلام" في نهر البارد والمجموعات المتطرفة في تعمير عين الحلوة فتسأل عنها جهات لبنانية، اذ كيف تمكنت من العبور عبر الحواجز الأمنية اللبنانية لتتموقع في المخيمين؟
ثم ان عدم اعطاء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفلسطينيين يتعارض مع خطاب القسم لرئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان، الذي انتخب توافقياً في أيار (مايو) 2008، والذي مثل خطوة متقدمة يبنى عليها في نسج علاقات لبنانية ـ فلسطينية سليمة، حيث قال: "إن التزامنا مواثيق الأمم المتحدة، واحترامنا لقراراتها، يعود لقناعتنا الراسخة بالشرعية الدولية المستمدة من مبادئ الحق والعدالة..." وأكد: "أن رفضنا القاطع للتوطين، لا يعني رفضاً لاستضافة الأخوة الفلسطينيين، والاهتمام بحقوقهم الانسانية، بل تأسيساً لحق العودة حتى قيام الدولة القابلة للحياة".
وتم كذلك التطرق لأوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، في البيان الوزاري لحكومة الوحدة الوطنية الأولى في عهد الرئيس سليمان برئاسة فؤاد السنيورة، ومن ثم حكومة الوحدة الوطنية الثانية في عهد الرئيس سليمان برئاسة سعد الحريري التي أوردت الشأن الفلسطيني في بيانها الوزاري متحدثا للمرة الأولى في تاريخ الحكومات اللبنانية عن "العمل على صعيد توفير الحقوق الانسانية والاجتماعية للفسطينيين المقيمين على الأراضي اللبنانية".
اخيراً، ما لا بد من التحذير منه ان الابقاء على المخيمات في حالها الحاضرة وعزلها اكثر فأكثر عن محيطها وتصاعد حالة الفقر فيها سوف تتسبب بانفجار اجتماعي امني، لبنان بغنى عنه وحله بيده.. الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفلسطينيين دعما لحق العودة ومنعا للتوطين والحيلولة دون بقاء المخيمات "بؤرا أمنية" والتعبير هذا يعود الى زاعمه وليس للواقع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق