الجمعة، 28 يونيو 2013

مواجهة التطرف ليس بتطرف مقابل إنما بحراك مدني سلمي

أنيس محسن
لست من المعجبين كثيرا بـ"تيار المستقبل" في لبنان، وإن كنت أؤيد مدنيته من دون تحفظ.. لكن ما يلفتني تلك الحملة ضده من قبل "حزب الله" وحلفائه وخصوصا "تيار ميشال عون" المستمرة بشكل جنوني منذ سنة 2005، وهي استكمال للحملة التي طاولت الرئيس الراحل رفيق الحريري قبل اغتياله، من قبل النظام السوري وأزلامه في لبنان، وهي لا زالت على أشدها رغم انتفاء أي علاقة لـ"المستقبل" بكل المنتجات "التطرفية السنيّة" التي ما هي إلا نتيجة طبيعبية لشيطنة أكثر السنّة اعتدالا... ومن غير المستبعد أن يُشيطن حتى شخص مسالم مثل تمام سلام قريباً من قبل هذه الأوساط. 

ما يفعله "حزب الله" وقبله النظام الأمني السوري - اللبناني بهذا الشأن انما استجلاب واستيلاد لعدو على الطريقة الإسرو - أميركية في استجلاب أو استيلاد الأعداء على نمط "القاعدة" أو بعض القوى الاسلامية واليسارية شديدة التطرف، وهي قوى يُعتبر الانتماء إليها بمثابة رد فعل على صلف الطرف الآخر، واستجابة غير واعية لإرادته.
مواجهة الأسلوب الإسرو - أميركي الذي يستعيره "حزب الله" والنظام الأسدي في سوريا ونظام "الباسدران" في إيران، لا تكون إلا بحراك مدني، وهو السلاح الأفعل والأقل تكلفة، والأمثلة على النجاحات لا تحصى:
- أول وأهم النجاحات التي حققها الحراك المدني، الثورة اللاعنفية للمهاتما غاندي، قاهر أقوى امبراطوريات القرن العشرين، أي إمبراطورية بريطانية العظمى، فتحقق استقلال الهند بلا سلاح، وهي الآن من أعرق الديموقراطيات في العالم حيث يتم تبادل السلطة بشكل منتظم فيها.
- ثاني هذه النجاحات هي حملة الحقوق المدنية لمارتن لوثر كنغ في الولايات المتحدة، لسنة 1963، التي حققت في 2009 وبعد 46 عاماً، حلم هذا الحالم المدني وجاءت بأول أميركي من أصل أفريقي إلى البيت الأبيض ولدورتين متتاليتين؛ بغض النظر عن تقييمنا "العروبوي" لمنتجات إدارة باراك أوباما الشرق أوسطية.
- ثالث النجاحات، تتمثل بنضال نلسون مانديلا العظيم من داخل زنزانته، الذي قوض أحد أعتى أنظمة الفصل العنصري في العالم، ولم يقد جنوب أفريقيا نحو احتراب أهلي ولا نحو انتقام وثأثر قبليين، إنما عبر تجربة "العدالة الانتقالية" التي تمكنت من إزاحة شبح الاحتراب الأهلي والمجازر عن جنوب أفريقيا.
- رابع النجاحات التي لم تستكمل وجرى إجهاضها، هي ثورة الحجارة الفلسطينية في 1987 التي كشفت العنصرية الاسرائيلية امام الشعوب الغربية وضغطت عبر الرأي العام الغربي على حكومات الغرب المؤيدة من دون تحفظ لإسرائيل، كي تتخذ إجراءات ليست في مصلحة الدولة العبرية. وهي ثورة مغدورة بفعل الاستخدام السيء من قبل "الذهنية المتعسكرة" لقيادة منظمة التحرير التي انتجب وليداً هشاً ومهشماً أسموه "اتفاق اوسلو"، فبيعت إنجازات أطفال فلسطين وحجارتهم بسلطة هجينة بانت لاحقاً أنها مجرد شرطي في خدمة الاحتلال، من دون وعي. وقد انكشف عقم عقلية "العسكرة" في الانتفاضة الثانية أو ما يعرف بانتفاضة الأقصى في سنة 2000، التي ما إن تعسكرت حتى قضى شارون حتى على وهم إنجازات أوسلو المتمثلة بالسلطة الفلسطينية عبر إعادة احتلال الضفة، ثم إنتاجه لدويلة غزة بعد انسحابه الأحادي من القطاع وتمكنه من تحقيق حلم تقسيم الفلسطينيين جغرافياً وسياسياً، بين إسلامي وعلماني، وغزة والضفة، كما لم ينقسموا في تاريخ نضالهم المديد.

- خامس النجاحات التي تم تقويضها، هي حركة 14 آذار 2005 في لبنان، التي هب فيها اللبنانيون بسلاح العَلَم اللبناني والورود والصوت والغناء والرقص في ساحة الشهداء، فنجحوا في اخراج قوات نظام الأسد العسكرية من لبنان، لكن تمت مواجهة "14 آذار" بسلسلة من الاغتيالات التي لم تتوقف وان اخذت هدنة هنا واخرى هناك، فضلا عن تخلي ما يطلق عليه تسمية "الغرب الديموقراطي" عن هذه الحركة، وكذلك عدم فاعلية وقدرات الاحزاب والقيادات السياسية للحركة وبالأصل عدم إيمانها بالجمهور، الأمر الذي أحدث حالة إحباط لدى هذا الجمهور.
- سادس هذه النجاحات التي تجري عرقلتها، هي الحراك العربي المعروف بـ"الربيع العربي" وهو حراك إذا أمعنا النظر فيه نرى أن رافضيه الذين يفترض أنهم أعداء فيما بينهم؛ أي الغرب عامة واسرائيل وما يسمى بـ"الممانعة" الممتدة من بلاد فارس حتى "سوريا الأسد" مرورا بـ"حزب الله" وبـ"الإسلام السياسي السنّي" ممثلا بالإخوان المسلمين وأشباههم، كل هؤلاء، بسبب الخوف من سيادة أنظمة ديموقراطية حقّة تنهي هيمنتهم على الشرق والمغرب العربيين أو بسبب شهوة السلطة، اصطفوا ضد إرادة الشابات والشبان الذين أطلقوا الثورة.
في هذا المجال لا بد من طرح ملاحظة، هي أن الثورة البيضاء على الأنظمة الليبرالية، الفاسدة، مثل نظامي مبارك في مصر وبن علي في تونس، كانت الأقل دموية، فيما الثورة السلمية على أنظمة "ممانعة" مثل "ليبيا القذافي" و"يمن علي عبدالله صالح" و"سوريا الأسد" كانت مثخنة بدماء الشعوب الثائرة، وخصوصا النظام الأسدي "الأكثر ممانعة". ما يجعل المرء يتمنى العيش، إن لم يكن هناك من مفر، تحت حكم نظام ليبرالي فاسد يبقي على فسحة ولو مفتعلة من الديموقراطية، نظام قابل للاستبدال يوماً ما، على نظام "ممانعتوي" دموي يُحوّل الحراك السلمي إلى نزاع مسلح يحصد مئات الألوف قتلى ومعوّقين وملايين المهجرين والنازحين، فقط للبقاء في السلطة.
إن التجربة قد أظهرت بجلاء، أنه حيث كان الحراك مدنياً كانت النجاحات أكبر وأقل تكلفة بشرية، وحيث قاومت الأنظمة الحراك المدني، إنما اجتهدت في انتزاع المضمون المدني للحراك وعسكرته بما يمكنها من تحويله إلى نزاع بين طرفين مسلحين، كما هو الوضع الآن في سوريا، وقبلها في فلسطين التي خسرت حين تعسكرت الانتفاضة وصبّت النتيجة بالمحصلة في مصلحة إسرائيل.
ما يجري في مصر الآن، خطير، لكن الأمل قائم بأن ما يقوم به المجتمع المصري هو عبارة عن حراك مدني في الشارع لنزع السلطة من قبضة الإخوان، سارقي ثورة شابات وشبان مصر، وقد تمكن هذا الحراك في تونس من تخفيف غلواء إسلاميي "النهضة" والمتطرفين من "سلفيي" تونس.

إن ما جرى أخيرا في صيدا في جنوب لبنان، والمواجهة المدنية التي يخوضها المجتمع الصيداوي بعد أزمة "عبرا"، في وجه غلواء "حزب الله"، حققت في ساعات انجازات أكبر كثيرا من "إنجازات" أحمد الأسير، الذي جذبته الأضواء فاشتبك مع الطرف الأخر في مكان موازين القوى فيه ليست في مصلحته أبداً، وعدّة المواجهة فيه ساقطة، كونها تنطلق من بعد مذهبي ديني، وليس من بعد مدني مرتبط بالحياة وبالحق في العيش بسلام وازدهار وتنوع ثقافي وحضاري.

الثلاثاء، 25 يونيو 2013

هزيمة الأسير ومشاركة "حزب الله" في معركة عبرا وأسباب عدم اندلاع صراع مذهبي بين السنّة والشيعة








أنيس محسن



السر في عدم اندلاع حرب مذهبية في لبنان: أن أطرافاً مفترض أن تكون الطرف الآخر في معادلة الحرب لا تريد الحرب وترفض التسلح رغم وجود طرف مسلح ومستعد نفسيا لمثل هذه الحرب؛ وأن دولاً مفترض أنها تدعم الطرف غير المسلح إلى الآن ليست بوارد تسليحه على الرغم من أن الطرف المحلي الآخر يحظى بدعم تسليحي ومالي كبير من دولة إقليمية "كبرى".

أحمد الأسير، شخص نفخ إعلامياً فصدّق أنه قادر على تغيير المعادلة، هو شخص بسيط متألم ومجروح ويعبر عن الحالة النفسية لثلاثة أرباع اللبنانيين وخصوصاً السنّة منهم. إنه نموذج يمكن احتواءه وقد احتوي بسرعة في المعركة غير المتكافئة عدة وعدداً في عبرا.
في العراق، عندما انهار نظام صدام حسين، واستُضعفت قاعدته الشعبية (السنيّة)، من قبل شيعة الوطن العراقي الذين حكموا بعدما سيّدتهم الدبابات الأميركية، هذه الفئة السنيّة المستضعفة من الشعب العراقي لم تجد سوى تنظيم "القاعدة" لخوض مواجهة مع الطرف الأقوى، فتحول العراق إلى مقتلة يومية.
لم يتمكن لا الأميركيون ولا الحكّام الجدد في العراق من مواجهة القنابل البشرية "القاعدية"، بل من سيطر على انتشار "القاعدة" واستشراء شرّها في ثنايا العراق، النسيج الاجتماعي نفسه الذي احتضن هذا التنظيم، أي السنّة. فكانت تجربة الصحوات التي أسسها الجنرال الأميركي، الثعلب، ديفيد بترايوس، فانحسرت رقعة امتدادات "القاعدة" وبات قادة التنظيم الذين حكموا وتحكموا في المحافظات السنية، طُفّاراً ملاحقون ومكشوفون مما مكن الأميركيين والسلطات العراقية من اصطيادهم واحداً تلو الآخر.
في لبنان، لا تزال الطائفة السنيّة، طائفة مدنية غير مُعسكرة. فلو أن الطائفة السنية في صيدا ميّالة نحو التطرف لما سقط الأسير بهذه السرعة ولما كان بلا غطاء شعبي حقيقي. وفي طرابلس حيث تُشَيْطَن المدينة وتُصوّر على أنها مدينة "السلفيين الجهاديين"، اقتصر رد الفعل على سقوط الأسير على ساعات قليلة من الغضب وظهور بعض المسلحين، لكن انتهت تلك المظاهر سريعاً، ولم يكن لها أصلاً تأييد شعبي مؤثر. صورة طرابلس المدنية المسالمة ظهرت غير مرّة أخيرا على الرغم من الديماغوجية الإعلامية "الممانعة" التي تعظم مظاهر "السلفية" وتقزم الحقائق المدنية للمدينة وأهلها، فكانت تظاهرات واعتصامات ومسيرات ونشاطات ملفتة للمجتمع المدني، ضد العنف.
في بيروت، فئتان من السنّة: سكان رأس بيروت الذين لم يكونوا يوماً ميالين إلى اقتناء أي سلاح، وسنّة طريق الجديدة، الأكثر شعبية وانفعالاً وتفاعلاً مع المذهبية. لكن أوائك لم تتعد ردة فعلهم على سقوط الأسير سوى إحراق إطارات مطاطية هنا وهناك وظهور مسلح لا يتعدى البنادق الخفيفة وبضعة أشخاص يحملونها، وقد انتهت مظاهر الاحتجاج سريعاً جداً.
وفي البقاع: عرسال، أكبر مدن السنّة وأكثرها عراقة في الانتماء الى المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وفي الانتماء العربي، لم تقدها كل المضايقات والتعبئة "الطائفية الإعلامية" إلى صراع مع محيطها الشيعي، كما لم يقد كل ما تعانيه الى صدام بين المنطقة السنية في عكار المحاذية لمحيطها الشيعي. وفي البقاع الأوسط أيضا حرقت إطارات مطاطية وقطعت بعض الطرقات وكذلك في منطقة مجدل عنجر والمصنع.. انتهت الاحتجاجات سريعا جداً.
تلك الصورة صحيحة تماماً عن مظاهر ردات الفعل المادية، لكن ماذا عن ردات الفعل النفسية لدى السنّة في لبنان؟
أكثر ما آلم السنّة في لبنان، كما في الدول العربية، مظاهر النصر الفارغة من أي مضمون أخلاقي التي ظهرت في المناطق الشيعية في لبنان احتفاء بقهر مدينة القصير السورية. يكفي أن يجول السائل افتراضياً في وسائل التواصل الاجتماعي ليتبين حجم الرفض المذهبي لمعركة "حزب الله" السياسية المتلحفة بغطاء مذهبي في سوريا عموماً وفي القصير خصوصاً. أما التجوال الحقيقي بين السنّة وسماع موقفهم مما جرى فيؤكد المشاعر المذهبية المعادية للشيعة التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وإن لم تترجم مواجهة جسدية.
في معركة عبرا، أراد سنّة صيدا قبل غيرهم الخلاص من أسر "الأسير" وكانوا أصلاً ضده عندما قطع أوصال المدينة باعتصامه الذي دام نحو شهراً منتصف السنة الماضية (2012)، مع أنهم لم يخفون هم والسنّة الآخرون في لبنان، تأييدهم للشعارات التي رفعها: تل الداعية لسيادة الشرعية أو المنادية بالخلاص من سلاح "حزب الله".
بدى الأسير وحيداً تقريبا مع مؤيديه، بلا غطاء: طائفياً وشعبياً أو سياسياً. وكان ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته "فتح الإسلام" في الشمال في 2007؛ التعرض للجيش وارتكاب مجزرة بحق جنوده. وكما في نهر البارد، كان الأمر في عبرا: الجيش مصمم على الاقتصاص من قتلة جنوده؛ والمرتكبين من دون غطاء سياسي أو شعبي. لكن الفارق بين 2007 و2013 أن السنّة وإن كانوا موافقين على إزالة الحالتين، فإنهم لم يكونوا في حالة عبرا بنفس درجة المساندة الشعبية للجيش في حالة نهر البارد. ليس لأن الفعل في نهر البارد كانت واجهته فلسطينية كون المكان هو مخيم فلسطيني، فقتلة الجنود هناك كانوا لبنانيون والفلسطينيون كانوا أقلية في "فتح الإسلام" بل إنهم أخلوا المخيم ما مكن الجيش من حسم المعركة.
في عبرا، ما آلم السنّة اللبنانيون، المشاركة المباشرة لـ"حزب الله" والشيعة في المعركة. سواء بالحصار الذي فرض على فيلا الحريري في مجدليون وكانت النائب بيهة الحريري بداخلها، أو بالانتشار المسلح الواضح والعلني في شرق صيدا وصولاً الى عبرا، وفي حارة صيدا داخل المدينة، وتسريب أشرطة فيديو وبثها على موقع "يو تيوب" تؤكد المشاركة الفاعلة للحزب وحركة أمل في المعركة، وما نُقل عن شهود عيان ونشر في الصحافة في اليوم التالي لسقوط المربع الامني للأسير وأكد التواجد الفعّال لـ"حزب الله" حتى عند الحدود الملاصقة للمربع الأمني للشيخ اللأسير، والحديث هنا ليس عن مجرد تواجد عسكري في الشوارع وفي الشقق المشهورة التي كانت واحدة من أسباب التوتر الأمني في عبرا طيلة الفترة الماضية، إنما عن المشاركة قصفاً والتحاماً مباشراً في الاشتباكات مع أنصار الأسير داخل المربع الأمني.
بدا واضحاً بعد انتهاء معركة عبرا أن السؤال الذي طرحه السياسيون السنّة ومن خلفهم الجمهور السنّي في صيدا وعلى امتداد تواجد السنّة في لبنان: هل الأمر سيتوقف عند مربع الشيخ الأسير؟ وماذا عن الشقق الأمنية وعن والمربعات الأمنية في صيدا ومحيطها؟
بحثاً عن توقعات الشارع السنّي، كان الجواب المباشر والعفوي: لن يتحرك أحد لإزالة أي تواجد أمني في الشقق والمربعات الأمنية التابعة لـ"حزب الله" و"أمل" وحلفائهما في صيدا، وفي المناطق الأخرى!!
الشارع السنّي، غير المهيأ نفسياً حتى اللحظة للاخراط في صراع مذهبي مع الشيعة، وغير المدعوم تسليحاً وتحريضاً من الدول الفاعلة إقليمياً ودولياً لمثل هذا الدور، يشعر بمرارة كبيرة.. مرارة تشبه كثيراً تلك المرارة التي أعقبت الاحتلال الاميركي للعراق وتولي شيعة العراق الحكم، وإعدام صدام حسين وما سبق الإعدام ورافقه من ازدراء طائفي للسنّة كجمهور ولقياداته السابقة واللاحقة، والتي قادت إلى اللجوء إلى "القاعدة" لمواجهة امتهان الكرامات الذي ساد في حينه.
"القاعدة" (بمعنى التطرف الإسلامي السني وليس بالضرورة القاعدة كتنظيم) موجود بكثافة في سوريا، التي منع الدعم عن جمهورها المدني المعارض لحكم آل الأسد، وهو يغلب عليه الطابع السنّي حكما كون الغالبية السورية سنّية، فتحولت التظاهرات السلمية الى مواجهة عسكرية، فيما َمُنع تسليح الضباط والجنود المنشقين عن الجيش النظامي والذين انتظموا فيما يعرف بـ"الجيش الحر" فتشتت هؤلاء واستحالوا مجموعات منشقة ضعيفة أو انضموا إلى التشكيلات العسكرية المليشاوية الإسلامية، بل أحياناً إلى تشكيلات مليشياوية إجرامية، والآن ثمة محاولة تهدف إلى تعويم "الجيش الحر" على الطريقة "البترايوسية". والمعروف أن السوريين شعب محافظ ومتدين، لكنه غير متطرف وميال الى التعايش وقبول التنوع، لكن عندما يفشل الاعتدال في المواجهة يلجأ الناس الى المتطرفين لحماية أنفسهم، أو للانتقام من الآخر. الوضع الحاضر في سوريا هو صراع مذهبي عميق، والتعايش والتنوع ضرب في الصميم ولن تكون استعادته سهلة.
"القاعدة" موجود أيضاً في لبنان، ضعيف كتشكيل منظم، لكنه يقوى ويزدهر كفكر. إنه الدرع الذي قد يكون البديل عندما يتمادا الكل في إفشال وشيطنة الاعتدال السنّي. وعندها لن تكون حرباً مذهبية تشبه الحرب الطائفية التي انتهت، على الطريقة اللبنانية، بمنتصر غير قوي هم المسلمون وخاسر غير ضعيف هم المسيحيون. الحرب المذهبية إذا وقعت قد يكون لبنان، ككيان لم يستقر تاريخيا بعد، هو الضحية فيها.
 

الأحد، 23 يونيو 2013

عن محمد عساف وARAB IDOL والانتقادات السخيفة إلى حد العنصرية



أنيس محسن

ونحنُ نحبُ الحياةَ
إذا ما استطعنا إليها سبيلاَ
 ونرقصُ بين شهيدينِ.
نرفعُ مئذنةً للبنفسجِ
 بينهما أو نخيلاَ
 ونحنُ نحبُ الحياةَ
 إذا ما استطعنا إليها سبيلاَ
 ونسرقُ من دودة القَزِّ خيطا
 لنبني سماءًا لنا ونُسيِّجُ هذا الرحيلاَ
 ونفتحُ باب الحديقةِ
 كيْ يخرُجَ الياسمينُ
 إلى الطّرقاتِ نهارا جميلاَ.
محمود درويش

لم أكن أود الكتابة في موضوع فوز محمد عسّاف بلقب ARAB IDOL، كون الموضوع خارج اهتماماتي اليومية المحصورة بين الكتابة وقراءة ومشاهدة وسماع الأخبار وتكوين رأي شخصي بما يحدث حولنا، فأنا صحافي وناشط سياسي سابق ومدني مع وقف التنفيذ. لكن ما استفزني تلك النبرة ضد فوز عسّاف، المتعالية؛ السمجة؛ العنصرية؛ من شمطاء تزعم الصحافة الفنية وباتت تحتاج إلى "جرس" يوقظها من سباتها ومحاولتها التصابي في كهولتها المبكرة "قليلاً" بالخضوع لكل أنواع الجراحات التجميلية (المدعوة نضال الأحمدية). ومن صحافيين كتبا في "الأخبار" اللبنانية التي تتقن كل أنواع السلبيات (راجع عدد الإثنين 24/6/2013)، فأوغلا في إسناد سلبية وسيلتهما الإعلامية الموصوفة إلى "وطنيات" فارغة أكثر من الفراغ في رؤوس مدرائهما. وبعض "الثوريين" خصوصاً من فلسطينيي سوريا (وحدهم يحق لهم الشكوى لأنهم على حد سكين الجلاد)، والبعض ايضاً من "نقاقي" الضفة، وآخرين من "متشددي" غزة.. إلى اخرهم!!
نعم يحق لنا الفرح بالشاب الفلسطيني الطيب، الغزي المحاصر بين حصارين: حصار "حماس" لكل ما هو إبداع وفرح وحياة رغم تخليها عن المقاومة (التي كانت تزعمها سابقاً) لمجرد تأبيد حكمها وتكبير كيس مال محدثي النعمة فيها؛ وحصار إسرائيل، العدو الدائم والرافض لإبقاء حتى شعاع أمل حياة للفلسطينيين، إلى حد كراهية شجرة الزيتون واقتلاعها لأنها ترمز إلى صمود الفلسطينيين وتجذرهم في أرضهم، بالطبع إذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ولن تستطيع. هذا الشاب وقصة معاناته الخاصة أيضا في الالتحاق بالبرنامج التي تشبه كل حكايا الشعب الفلسطيني، أفرادا وجماعة، اجترح معجزة توحيد الفلسطينيين في أربع أرجاء: فلسطين تحت الإحتلال منذ 1948؛ فلسطين الضفة الغربية؛ فلسطين غزة؛ ثم فلسطين الشتات؛ وهي الأرجاء الأربع التي أهداها فوزه.
هذا الشاب المناضل الذي، قبل أن يسعى نحو حلمه الشخصي، كان قد غنّى للأسرى المبعدين إلى قطاع غزة على شاطئها الذي تمنع السباحة به للنساء ويمنع على الرجال ارتداء الشورتات. وغنّى في غزة علّي الكوفية، قبل أن يلهب مسرح ARAB IDOL وحيثما وجد فلسطيني بإعلائه الكوفية، التي باتت رمزاً فلسطينياً كما الزيتون.
نعم هذا الشاب الذي، لم يكن يأمل أصلاً أن يُقبل في البرنامج ولم يراوده الفوز حتى في أحلام نومه كما يقظته، كشف من دون تخطيط عن خواء سياسي لدى الطبقة المتحكمة في غزة والضفة والشتات، بحيث بات مغنٍ شابٍ هاوٍ، قادراً على جمع الفلسطينيين وتوحيدهم، فيما هذه الطبقة تُطأطئ رأسها للغرب أملا بمفاوضات بلا نهاية، وللشرق بزعم مقاومة لم تكن سوى غطاء لشبق السلطة.
نعم يحق للفلسطيني أن يفرح في خضم عرس الدم الذي لم ينضب منذ 63 سنة، ولولا إرادة الحياة والفرح التي يمتلكها، لكان هو وقضيته أصبحا من الدوارس. يحق للفسطيني أن يولد من رحم الموت كما تولد العنقاء من الرماد.. يحق للفلسطيني أن يكون حيث يراد له أن لا يكون!!
وإلى أولئك الذين يريدون الفلسطيني بكّاءً ونوّاحاً، أقول: لم يجلب البكاء والنواح سوى الغم والموت حسرة، لكن الحياة وإرادة المقاومة والبقاء، لا يجلبها سوى الفرح.. من أجل الفرح والحياة، حملنا البندقية وليس من أجل الموت. من أجل حقنا في الحياة والفرح انتفضنا بلحمنا.. وبحجر ضد جبروت أسرائيل، وليس لأجل الموت. من أجل حقنا بالحرية يصبر آلاف الأسرى على حبسهم ويقاومون سجانهم، وليس من أجل الموت.. هو نضال من أجل فرح نريده لمن بعدنا كما أراده لنا من جاء قبلنا، وليس نضال لفرح فردي أو موت فردي وجماعي.
كفا ازدراء بهذا الشعب.. المقاوم العنيد، الذي يعرف كيف يفرح وسيبقى يفرح حتى تحقيق حلمه بدولته على كل ترابه الوطني، من نهره إلى بحره.


السبت، 22 يونيو 2013

قصة اعتراض شيعي.. عفوي

ليس كما كان الأمر عليه سابقاً. الاعتراض الشيعي على سياسات "حزب الله" هذه المرة أعمق من انتقادات وملاحظات لمحمد حسن الأمين أو علي الأمين أو محمد عبد الحميد بيضون، أو غيرهم من الشخصيات الدينية - السياسية او السياسية الشيعية المعترضة على ثنائية حزب الله - أمل، مصلحيا أم مبدئيا. الاعتراض الشيعي هذه المرة ينبع من قلب الشارع، ومن أناس، غير متدينين، لكنهم حتى وقت قريب كانوا يؤازرون الثنائية الشيعية انتخابيا وطوائفيا.
قبل أسبوع، حصلت حادثة أمامي معبرة وعميقة؛ وها هي سرديتها:
في حافلة صغيرة (فان) متوجهة من صيدا نحو صور، أراد شبان سوريون مع امتعتهم الصعود  والذهاب إلى مكان سكنهم.. جنوبا. من بين ركاب الحافلة سيدة محجبة وزوجها وبناتهما الثلاث.. كثيرو الضوضاء وكأنهم في منزلهم. تلك السيدة تحتج بلهجة جنوبية لكن متعالية على صعود الشبان السوريين.. احتجاجها واضح انه يحمل عنصرية مقيتة.. ترفض مطلقا مشاركة السوريين ركوب الحافلة ذاتها، وكأنها حاكمة مساحة الحافلة ومحيطها، بل حاكمة الجنوب بكل ألوانه وتفاصيله.. تقول: ما أدرانا أن تلك الأمتعة، وهي بالمناسبة فرشة يمدها هذا السوري الفقير ارضا ليتكأ ليلا عليها، ما أدرانا أنه لا يوجد فيها متفجرات... أنا لن أبقى في حافلة واحدة معهم، إما نحن أم هم. الموقف هذا طبعا ناشئ عمّا يجري في سوريا وتورط "حزب الله" هناك.
طبعا الشبان السوريون، وربما كانوا يعملون في الجنوب منذ سوات عدة، انسحبوا من دون أي رد فعل على هذه العنصرية المقيتة وتوجهوا الى حافلة اخرى.

 لكن فتاة عصرية "شيعية" أيضا، انفجرت  وردت على عنصرية الامرأة الاخرى، فقالت بتحد وبصوت مرتفع فيه تأنيب شديد: ماذا يمكن ان يحمل هذا العامل السوري الفقير سوى امتعة شخصية.. لماذا هذه العنصرية، ثم من وكلك للحديث باسمنا.. انت تمثلين نفسك فقط.
في الطريق نحو صور.. نزلت الفتاة العصرية عند بلدة عدلون، التي كانت فقدت قبل أيام قليلة ابنها هاشم السلمان برصاص "مقاوم" لأنه تجرأ على الاحتجاج ضد تورط "حزب الله" في الحرب في سوريا وأمام السفارة الإيرانية في بيروت.
نزلت الفتاة العصرية "الشيعية" من الحافلة بهدوء.. تذكرت، تلك الفتاة العصرية "الشيعية" خلال انتخابات مجلس النواب 2009، التي نشرت الصحف صورتها وهي تحمل علم "حزب الله" الأصفر، وقد جلست على نافذة باب سيارة رباعية الدفع بحيث كان اسفل ظهرها مكشوفا وكاشفا عن وشم جميل، والمقطع الجانبي لأعلى جذعها يكشف عن صدر بارز نصفه مكشفوف بسبب "البروتيل" الذي ترتديه.
نعم المزاج الشعبي يتغير، الفتاتان العصريتان في 2009 و2013 متشابهتان بمظهرهما، لكن الموقف تغير؛ من داعم لحزب صمد في 2006 بوجه اسرائيل وأقنع كثيرا من الناس، شيعة خصوصا ومن الطوائف الاخرى، أن رأسه مطلوب من اسرائيل والغرب وعرب النفظ وبعض الداخل اللبناني من حلفاء الغرب، فكان حوله هذا الالتفاف الشعبي حتى من قبل من هم لا يتوافقون ايديولوجيا معه.. إلى معترض على تدخله الفظ في سوريا مع النظام ضد الشعب، وقمعه لمن يختلف معه في لبنان وخصوصا ممن هم من الطائفة الشيعية.. فتاتان شيعيتان عصريتان في تاريخين لم يمض عليهما كثيرا، وموقفان مختلفان تماما.
فضلا عن انزعاجي، كما انزعجت فتاة الحافلة "العصرية" من عنصرية الفتاة المحجبة اتجاه السوريين، فقد طال انزعاجي اكثر من زميلة الطريق نحو صور التي نزلت في عدلون، اذ أني كنت مضطراً ان أتحمل كل الصراخ والصوت العالي لتلك السيدة المحجبة وبناتها حتى دوار البص في صور حيث نزلت مع بناتها وزوجها الذي لم اسمع له صوتا.. لا ونحن في موقف النجمة حيث جرت حادثة زجرها السوريين بعنصرية ورد الفتاة الاخرى عليها بعنف لفظي واضح، ولا طيلة الطريق نحو صور.

الأربعاء، 12 يونيو 2013

الفلسطينيون في سوريا بين الحاضر واحتمالات المستقبل*





===== أنيس محسن

ذكّرت المستشارة السياسة والإعلامية الدكتورة بثينة شعبان في مقابلة أجرتها معها في 7 حزيران، قناة "الميادين" التي تبث من بيروت، بأن وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول اقترح على بشار الأسد في سنة 2003، ترحيل فلسطينيي سوريا وأن بشار الاسد رفض ذلك[i].
قد يبدو الأمر للبعض أن ما جاء على لسان المستشارة هو في سياق تأكيد نظام الأسد على محورية القضية الفلسطينية، لكن ما قرأه البعض الآخر، وهي قراءة تستوجب التوقف عندها، أن بثينة شعبان إنما أرادت من خلال التذكير بأن الغرب لطالما سعى إلى اقناع سوريا بالتخلي عن الفلسطينيين؛ قضية وديموغرافيا، بأن الملف هذا يبقى مفتوحاً على مصراعيه، وللفت انتباه الفصائل الفلسطينية بضرورة التنبه لمواقفهم وللاجئين الفلسطينيين في سوريا بأنهم قد يدفعون ثمن تأييد معظمهم للثورة السورية، عبر استجابة النظام لمقترح باول؛ والمثل على ذلك، ابعاد حركة "حماس"، التي كانت جزءاً من "محور الممانعة"، من دمشق في اللحظة التي فكرت فيها بعدم الولاء لنظام الأسد، ولمجرد اعتذارها عن أخذ موقف علني مناهض للثورة الشعبية.

حقوق الفلسطينيين بين عهدين
يعتقد بعض جمهور "الممانعة" وحتى جمهور "الاعتدال" العربي، أن نظام آل الأسد هو من أعطى الفلسطينيين حقوقاً مدنية واقتصادية قلمّا تمتعوا بها في مواقع لجوئهم في الدول العربية. صحيح أن اللاجئين الفلسطينيين في سوريا مميزون عن غيرهم من إخوانهم اللاجئين، لكن الصحيح أيضا أن هذه الحقوق ليست هبّة من نظام آل الأسد، إنما نالوها قبل استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا، وقد نُظّمت شؤون اللاجئين الفلسطينيين في القانون 60 لسنة 1956 الذي ساوى بين الفلسطيني والسوري في جميع المجالات الوظيفية والمهنية والعلمية باستثناء أمور تخصّ الانتخابات والترشيح لعضوية مجلس الشعب مع الاحتفاظ بالجنسية الفلسطينية[ii].
لم يغير استيلاء البعث على السلطة في سوريا في آذار 1963 كثيراً من أمور الفلسطينيين، بل في سنوات ما قبل استيلاء حافظ الأسد على السطلة، كانت سوريا ممراً ومستقراً للفلسطينيين، مدنيين وعسكريين وسياسيين. إذ ازدهرت، وبتسهيل من الحكومات البعثية المتعاقبة، قواعد الفدائيين، وفُتحت مراكز التدريب العسكري لمختلف الفصائل من دون تدخل مباشر من السلطات السورية، التي استقبلت أعداداً كبيرة من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، كما سهّلت السلطات للفدائيين القيام بعمليات عبر الحدود السورية ـــ الفلسطينية، وبالعبور من سوريا باتجاه لبنان والأردن.
هذه السنوات الذهبية للفلسطينيين التي بدأت مع وصولهم إلى سوريا بعد النكبة، كانت قد شارفت على نهايتها مع انقلاب حافظ الأسد ـــ مصطفى طلاس في 16 تشرين الثاني 1970 الذي أطلقت عليه تسمية "الحركة التصحيحية" وتولي الأسد (الأب) الرئاسة في 1971، والتي كان أول معالمها فلسطينياً؛ سحب القوات السورية التي دخلت إلى الأردن لمؤازرة الفدائيين وكشف ظهرهم مما سهل على الجيش الأردني كسب ما يعرف بمعارك أحرلش جرش وعجلون. ومن ثم الانقلاب على التحالف القائم بين النظام السوري وبين منظمة التحرير والحركة الوطنية في لبنان في 1976 والدخول الى لبنان تحت لافتة الدفاع عن المسيحيين فيه بموافقة أميركية ـــ إسرائيلية ـــ عربية، واستكمال مشروع الهيمنة على الفصائل الفلسطينية من خلال إحداث انشقاق في حركة "فتح" في سنة 1983 في خضم خوض حرب عصابات ضد الاحتلال الاسرائيلي في الجبل والجنوب، وصولاً إلى مساعي إضعاف التمثيل الشرعي لمنظمة التحرير للشعب الفلسطيني، ودعم "حماس" ضد "فتح" في زمن الأسد الإبن.
أما على صعيد الحقوق المدنية والاقتصادية، فإنه وفيما كان يحق للفلسطينيين ولوج مختلف مجالات العمل والتعلم في مختلف الكليات في الجامعات السورية الرسمية قبل بدء حكم آل الأسد، فإن قيوداً بمراسيم حكومية، أو بأوامر تنفيذية غير معلنة، وضعت أمامهم بعد ذلك، فلم يعد بإمكان الفلسطيني العمل في الوزارات بعدما كان عدد منهم وصلوا إلى منصب وكيل وزارة، كما أنه لم يعد بإمكان الضباط الفلسطينيين من الرتب العالية الخدمة في الجيش السوري فيما كانوا قبل ذلك يتولون مناصب مهمة وحساسة في الجيش السوري، ولم يعد بإمكان الفلسطينيين، في عهد بشار الأسد، العمل في التعليم الرسمي كما حظر على التلاميذ التسجيل في بعض الكليات، خصوصاً التطبيقية منها.

الفلسطينيون والثورة السورية
إذا كانت تلك هي حالة الفلسطينيين في سوريا منذ اللجوء ما بعد النكبة حتى ما قبل اندلاع الثورة الشعبية، فما هو وضعهم خلال الثورة، وما هي احتمالات المستقبل: إذا تمكن النظام من البقاء وفشلت الثورة؛ وإذا سقط النظام ونجحت الثورة؟
من نافل القول، أنه ما عدا وجود مجموعة لا بأس بها في مخيم حندرات في ريف حلب، وقفت إلى جانب النظام السوري، فإن معظم الفلسطينيين، في دمشق ودرعا وحمص واللاذقية؛ إما انخرطت إلى جانب الثوار أو أنها أيدت الثورة من دون الانخراط مباشرة فيها.
ديموغرافياً، تستأثر دمشق بـ 67% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين البالغ تعدادهم 528,711 نسمة حتى 1 كانون ثاني 2013[iii]، يقطن أغلبهم في مخيم اليرموك، أما في باقي المحافظات فيتوزعون على النحو التالي: درعا8%؛ حلب 5%؛ حمص 5%؛ حماة 2%؛  اللاذقية 2%[iv]. أما النسبة الباقية (11%) فهي موزعة خارج المخيمات وخصوصا في دمشق وريفها.
يسكن معظم اللاجئين الفلسطينيين، وفق التوزع السكاني أعلاه، في مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية، وهم يعتبرون جزءاً من النسيج الاجتماعي السوري، وبالتالي هم منخرطون في الثورة أو مؤيدون لها، تبعاً لتوزعهم الجغرافي واندماجهم الاجتماعي.

أي مستقبل؟
يشي تذكير بثينة شعبان في مقابلتها مع "الميادين" الوارد في مستهل المقالة، والتجارب السابقة لنظام عائلة الأسد بشأن الفلسطينيين، بأنه فيما لو تمكن هذا النظام من البقاء، فإنهم سوف يكونون أبرز الضحايا الذين سيُقَدّمون، مع قضيتهم، للغرب كقربان في مسعى لإعادة ربط علاقة معه، وكعربون وفاء للموقف الإسرائيلي الداعم ديبلوماسياً من خلال مطالبة تل أبيب لواشنطن والدول الأوروبية، عدم تسليح المعارضة والحفاظ قدر الإمكان على بقاء نظام الأسد، الذي حمى حدود إسرائيل مع الجولان طيلة 4 عقود، وللدعم اللوجستي والعملاني من خلال السماح لدبابات النظام السوري بدخول المنطقة منزوعة السلاح والالتفاف على مقاتلي المعارضة في الجولان خلال المعارك التي دارت مطلع حزيران الجاري قرب خط الهدنة في الهضبة المحتلة، وأولاً وأخيراً عقاباً لفلسطينيي سوريا على تأييدهم الثورة. وجل ما يمكن أن يتبقى من الشأن الفلسطيني في سوريا، ورقة تستخدم هنا وهناك، ولطالما كانت القضية الفلسطينية بنظر النظام مجرد واحدة من أوراق الضغط التي تُشْهر في مقابل السماح ببقاء النظام.
على المقلب الآخر، فإن المعارضة السورية تبدو مربكة إزاء الشأن الفلسطيني وكيفية التعامل معه. وهي فيما تعي ميدانياً الدور الإيجابي الذي لعبه الفلسطينيون لمصلحتها، من خلال فتح مخيم اليرموك أمام النازحين السوريين من جوار المخيم، الهاربين من المقتلة التي باشرها النظام السوري منذ بدء الانتفاضة، وفتح المراكز الطبية في المخيم لعلاج الجرحى المدنيين ومن الثوار، ثم رفض المخيم لـ"اللجان الشعبية" الموالية للنظام التي شكلتها "الجبهة الشعبية ـــ القيادة العامة" بزعامة أحمد جبريل، والانقلاب عليها واستخدام السلاح الذي اعطي لبعض عناصرها الى جانب الثوار، فإن بعض تلك المعارضة المسلحة، قامت بممارسات سلبية ضد سكان اليرموك دفعت بشباب تنسيقية المخيم الى توجيه انتقادات وتحذيرات علنية من مخاطر الاستمرار بتلك الممارسات، وقد كان هؤلاء الشبان من طليعة المشاركين في التظاهرات في المخيم وفي منطقة الميدان قبل ان تستخدم اجهزة النظام القمع الوحشي ضد المتظاهرين، وعشرات منهم دفعوا الثمن شهادة او إصابات وملاحقات واضطرار لمغادرة سوريا بعدما قررت اجهزة النظام ومواليها من الفلسطينيين اغتيالهم. وقد لامس عدد الشهداء الفلسطينيين حتى شهر حزيران الجاري 1400 شهيد وآلاف الجرحى ومئات المعتقلين فضلا عن نحو 80,000 لاجئ إلى خارج سوريا، معظمهم في لبنان، وعشرات الاف النازحين من أمكنة سكنهم داخل سوريا.
إن في ما جرى في مخيم حندرات في حلب، الذي سيطر الثوار عليه، مثالا على ما قد يلاقيه الفلسطينيون من قبل بعض مجموعات المعارضة المسلحة، غير المنضبطة، حيث وبسبب وقوف بعض شبان المخيم الى جانب النظام، سيق كل السكان، حتى المؤيدين منهم للثورة، الى معتقلات أنشأها الثوار.
ويقول ناشطون فلسطينيون منخرطون إلى جانب الثوار، أنهم ورغم وجود بعضهم في الهيئات القيادية للمجالس الثورية كأفراد، إلا أنهم فشلوا في اقناع المعارضة بضرورة أن تنشأ لجان تنسيق رسمية وواضحة ومعلنة، وأن لا يقتصر الأمر على التمثيل الفردي، بما يسمح بتلافي السلبيات في التعامل مع اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم او خارجها.
كما أن اللافت، رفض الهيئات السياسية القيادية للمعارضة، الميدانية في الداخل والسياسية في الخارج، إنشاء مكتب خاص بالفلسطينيين، تحت ذريعة أنه ليس الوقت الملائم لذلك، وأن الأمر قد يثير حفيظة بعض "أصدقاء سوريا"، علماً أن هؤلاء، الغربيون منهم تحديداً، لم يقدموا للثورة سوى الوعود بالسلاح من دون سلاح بل وبمنع بعض العرب من المبادرة الى التسليح، والتصريحات العلنية المؤيدة للمعارضة، لكن في الوقت نفسه ممارسة اقسى الضغوط السياسية والديبلوماسية والمالية على المعارضة لقبول التفاوض مع النظام، والقبول بتسوية تبقي النظام ضعيفا ولا تعطي للشعب حق اختيار نظام حكم يقرره بنفسه، في عملية يرفضها السوريون الذين ضحوا بمئات آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين وملايين النازحين واللاجئين، وتدمير مدن وقرى بكاملها، لإسقاط نظام آل الأسد.
أما الفصائل والهيئات الممثلة للفلسطينيين، سواء التابعة لمنظمة التحرير او الفصائل الاسلامية، كـ"حماس" و"الجهاد"، فإنها لم تجد حتى اليوم طريقاً إلى التفكير بمستقبل اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وهي تبقى رهينة الحاضر والاصطفافات "الممانعاتية" و"الاعتدالية"، ما قد يترك نحو نصف مليون فلسطيني في سوريا أمام مستقبل مجهول.
إن العنصر الفلسطيني في سوريا، وعلى الرغم من ضآلة حجمه مقارنة مع المحيط الديموغرافي السوري ـــ نصف مليون مقابل 24 مليونا ـــ يبدو قابلاً للاستخدام إيجاباً وسلباً في المستقبل، وبالتالي على الهيئات التمثيلية الفلسطينية والهيئات التمثيلية الثورية السورية، أن تتعاون على الحيلولة دون إمكانية استخدام النظام وجماعة "الممانعة" الوجود الفلسطيني مستقبلاً بشكل سلبي، بعدما حال التفاف الفلسطينيين حول الثورة السورية، حتى الآن، دون تمكن نظام بشار الأسد من امتلاك الورقة الفسطينية في مواجهة ثورة الشعب السوري.


* نشرت المقالة في جريدة المستقبل يوم الخميس 13 حزيران / يونيو، 2013، وموجودة على الرابط الألكتروني:
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=574870

[i] مقابلة بثينة شعبان متاحة بالصوت في الموقع الالكتروني لقناة الميادين على الرابط:

http://www.almayadeen.net/ar/Programs/Episode/wwRxJFSxWEe_G6HWATRzpg/2013-06-07-%D8%A8%D8%AB%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D9%86---%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%B1%D8%A6%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9


[ii] أنظر الموقع الالكتروني لموسوعة ويكيبيديا على الرابط:

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%A6%D9%88%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%86_%D9%81%D9%8A_%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7.


[iii] أنظر الموقع الإلكتروني لوكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) على الرابط

http://www.unrwa.org/atemplate.php?id=100


[iv] أنظر موسوعة ويكيبيديا، مصدر سابق.