الجمعة، 10 مايو 2013

المستقبل - السبت 11 أيار 2013 - العدد 4684 - شؤون عربية و دولية - صفحة 14


"ستاتيكو الموت" في سوريا وإعادة إنتاج "الحلول"



أنيس محسن
     باتفاق القطبين الدوليين، الولايات المتحدة والإتحاد الروسي، ليل 7 ـ 8 أيار 2013، على إعادة تفعيل اتفاق جنيف الذي رعياه ووضع بنوده المبعوث الدولي السابق كوفي أنان على رأس مجموعة العمل حول سوريا في 30 حزيران 2012، تكون الدولتان الراعيتان للاتفاق والأكثر تأثيراً، عملياً في مسار الأزمة السورية، قد كرستا "ستاتيكو الموت" القائم في سوريا منذ نحو عام ونصف، لبلوغ تسوية سياسية تحول دون إعادة بناء دولة قوية متماسكة.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبعد مرور نحو عام على اتفاق جنيف، ما الذي تغير على أرض الواقع كي يتفق القطبان على ما كانا قد اختلفا عليه؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من عودة سريعة إلى اتفاق جنيف لتبيان هدفه الحقيقي، ومحاولة تقدير الموقف القائم حالياً بغية استشراف احتمالات المستقبل.

                                      "الستاتيكو" السياسي
     إن جوهر ما اتفق عليه واضعو ورعاة اتفاق جنيف في حزيران 2012، هو حل الأزمة السورية سياسياً، عبر تشكيل حكومة من المعارضة والنظام بصلاحيات كاملة وواسعة بعد تخلي بشار الأسد عن صلاحيات حصرية يمتلكها وفق النظام الشمولي الذي يجلس على عرشه، لكن مع بقائه في سدة الحكم، بل حقه في الترشح مجدداً في سنة 2014 ووفق القراءة الروسية / الإيرانية، فيما القراءة الأميركية / الغربية كانت تذهب إلى أن مضمون الإتفاق يعني تنحّي الأسد وتكليف نائبه بمهام قيادة الدولة، على غرار النموذج اليمني الذي تبنّته دول الخليج العربي وفرضته على القوى المتصارعة في صنعاء، بموافقة دولية.
     مجدداً، لم يخرج اجتماع موسكو ليل 7 ـ 8 أيار 2013، بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري وكل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، بجديد: فلقد توافق الطرفان على أن الحل سياسي ومبني على أسس اتفاق جنيف، وعلى وضع آليات لتنفيذ الإتفاق والسعي إلى إقناع طرفي الصراع بالجلوس على طاولة المفاوضات، لكن من دون الإشارة إلى اتفاق بشأن مصير بشار الأسد مع تكرار اللازمة الروسية بأن موسكو لا تحمي أشخاصاً أنما تريد الحفاظ على وحدة سوريا، وكذلك العودة إلى الحديث عن تشرذم المعارضة وضرورة توحيد صفوفها قبل عقد مؤتمر دولي، توافَق عليه المحاور الأميركي مع محاورَيه الروسييَن من دون تحديد تاريخ له، والاكتفاء باستخدام عبارة "قريباً".
     إذاً، في السياسة لم يتغير أي شيء وعاد الجميع إلى نقطة الصفر، التي لم يبارحها أي من أطراف المعادلة الدولية المؤثرة في الأزمة السورية: كمثل الدجاجة والبيضة وأيهما وجد قبل الآخر، تتكرر لازمة هل يتنحّى الأسد بعد تشكيل الحكومة أم يبقى الستاتيكو السياسي حتى موعد الانتخابات الرئاسية في سنة 2014 في سوريا، وعندها يتقرر الأمر وفق المعادلة الموجودة في الميدان ووفق التوازنات السياسية / الأمنية، الإقليمية والدولية، فيبقى الأسد في حينه أو يغادر.

                                  "الستاتيكو" العسكري
     ولا يختلف أمر الميدان العسكري عمّا هو حال الميدان السياسي. صحيح أنه منذ أن أشهر النظام سلاحه على التظاهرات السلمية بعد نحو ستة أشهر من بدء الانتفاضة الشعبية في آذار 2011، وانشقاق عدد من الضباط عن جيش النظام والشروع بتشكيل مجموعات مسلحة لحماية المتظاهرين، حدثت متغيرات كبيرة؛ فتضخم عدد "الجيش السوري الحر" وتنامت المجموعات المسلحة "الإسلامية" المتطرفة وكبرت وتوالدت كالفطر ووجدت من يدعمها تسليحاً وتمويلاً، ليس فقط من قبل تنظيم "القاعدة" إنما من جهات إقليمية وربما دولية؛ وغيّر النظام من تكتيكه العسكري فلجأ الى تجميع قواته في مراكز المدن الرئيسية تاركاً الأرياف للمعارضة المسلحة، ثم انسحب من مراكز مدن على أطراف البلاد وتمركز خصوصاً في دمشق ومدن الساحل، لكن من دون أن يعني ذلك الانسحاب الكامل، اذ أن تقدم المعارضة في محافظات إدلب وحلب والرقة وحوران، وتمكنهم من احتلال مراكز مدن في تلك المحافظات، لم يدفع قوات النظام إلى مغادرة الميدان، بل بقيت متواجدة على تخوم تلك المناطق بشريا، وفي قلبها عبر قوة النيران: الصاروخية والمدفعية بعيدة المدى وسلاح الطيران، وقد تميزت تلك المرحلة بتمدد المعارضة المسلحة وبلوغها محيط قلب العاصمة دمشق وتخوم مدن الساحل في مرتفعات وأرياف اللاذقية، ومن حمص ومدن وبلدات ريفها المحاذية للبنان، حتى حدود الساحل؛ وهنا جاءت المرحلة الجديدة من خلال دخول "حزب الله" الواسع مع مليشيات شيعية عراقية، ميدان المعركة، بزعم الدفاع عن الأماكن المقدسة للشيعة مثل مقام السيدة زينب في ريف دمشق، وعن اللبنانيين القاطنين في قرى في منطقة القصير في ريف حمص، لكن في حقيقة الأمر، تأميناً لطريق إمدادات استراتيجي لقوات النظام بين الساحل ودمشق، ولـ"حزب الله" من أماكن تخزين الصواريخ الإيرانية باتجاه عمق الحزب البشري في البقاع اللبناني، وأبعد من ذلك، منع سقوط نظام الأسد الذي يمثل حلقة الوصل الجغرافية من طهران إلى بغداد وصولاً إلى لبنان، في الجيو ـ استراتيجيا الإقليمية، المسماة "محور الممانعة" والتي تمتد إلى روسيا وبعض حليفاتها في ما يسمى بدول تجمّع "البريكس"، وهذا على الصعيد العالمي.
     تلك المتغيرات أحدثت تبدلاً في السيطرة الميدانية، وفيما حافظت المعارضة على تواجدها القوي في حوران وحلب وإدلب وتوسعت في الرقّة، تراجعت بشكل دراماتيكي على جبهة حمص ـ القصير، فتقلصت البقعة الجغرافية التي تسيطر عليها قوى المعارضة المسلحة إلى جيوب داخل بعض أحياء مدينة حمص، وانكسرت في ريف القصير وتراجعت إلى مركز مدينة القصير فباتت محاصرة من قبل عناصر "حزب الله" ومليشيات النظام التي جرى تدريبها في إيران على حرب الشوارع وبلغ تعدادها نحو 60 ألف عنصر، وبالتالي تم تأمين المنطقة الحدودية بين البقاع وحمص امتداداً إلى ريف دمشق الغربي المحاذي أيضا للحدود اللبنانية، بل وانتقلت قوات النظام من التكتيكات الدفاعية في العاصمة، الى الاستراتيجية الهجومية على أحياء دمشق الجنوبية والشرقية التي كانت تسيطر عليها المعارضة وتهدد عبرها قلب العاصمة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الغوطة الشرقية المحيطة بمطار دمشق الدولي، والمناطق الجنوبية الغربية المحاذية للطريق السريع المعروف بـ"المتحلق الجنوبي"، وخصوصاً مدينتي داريا ومعظمية الشام اللتان تبعدان بضعة كيلومترات عن "قصر الشعب" في منطقة دمَر حيث المقر الرئاسي لنظام آل الأسد.
     على أن لتراجع قوى المعارضة المسلحة وتقدم تحالف الأسد ـ "حزب الله" ـ المليشيات الشيعية العراقية، ميدانياً، أسباباً لوجستية. فقد افتقدت المعارضة المسلحة الدعم المطلوب إقليمياً ودولياً، ولم ينتج عن مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري سوى وعود بالتسليح لا تلبث أن تختفي، لتبرز إعلامياً في كل مرة فزاعة "جبهة النصرة" التي تلمع قبل كل اجتماع إقليمي أو أوروبي فيه إمكانية حديث عن تسليح المعارضة، وتخبو مع انتهاء تلك الاجتماعات إلى اللا اتفاق. كما تتكثف الدعوات لتسليح المعارضة بعد كل اندحار ميداني للمعارضة، وتبرز "المخاوف" من انتقال السلاح الى "الإرهابيين الإسلاميين" من مثل "جبهة النصرة" بعد كل نجاح ميداني يتحقق ضد قوات النظام. فيفتح صنبور التسليح على قدر ما تحتاجه المعركة الواحدة المحددة الأهداف، وتقفل إذا ما تجاوزت تلك الإهداف، في "ستاتيكو دموي" أراق دم مئات الألوف من أبناء الشعب السوري، قتلى وجرحى؛ وحوّل عشرات ألوف السوريين، معتقلين ومفقودين؛ وتسبب بدمار رهيب للمساكن والبنى التحتية على اتساع رقعة الحرب الدائرة، وبتشريد ملايين السوريين كنازحين داخل حدود البلاد، ولاجئين إلى دول الجوار، في ظروف إنسانية غاية في السوء.

                                    إسرائيل: دخول موضعي
     كان لافتاً وسط الجمود السياسي للأزمة السورية، وتبادل السيطرة الميدانية عسكرياً ثم تقدم تحالف "حزب الله" ـ المليشيات الشيعية العراقية ـ نظام الأسد خصوصا على جبهتي حمص ودمشق، الدخول الموضعي الإسرائيلي الذي تمثل بجولتين من الغارات الجوية بين ليل الخميس ـ الجمعة 3 ـ 4 أيار الجاري، وفجر الأحد في 5 أيار، قرب جبل قاسيون المشرف على دمشق، وبلدة جمرايا في ريف دمشق الغربي.
     لم تُحدث موجة الغارات تلك أي تغيير ميداني أو سياسي. فسياسياً احتوت اسرائيل المسألة دولياً عبر اتصالات مكثفة مع موسكو وبكين وواشنطن وعواصم القارة الأوروبية، وسكت الجميع عن الأمر بل وأعطوا الحق لإسرائيل بالمبادرة إلى الهجوم لمنع انتقال أي أسلحة استراتيجية إلى "حزب الله"، فيما محور "الممانعة" أطلق سيلاً من التهديدات التي لم تكن سوى صدى في أثير الإذاعات والقنوات التلفزيونية وحبراً على ورق الصحف، من دون فعل ميداني، فيما فتح نظام الأسد حدود الجولان، التي لا يملك السيطرة عليها، لعمليات عسكرية سمح لتنظيمات فلسطينية، لم تعد تمارس المقاومة سوى دفترياً، القيام بها؛ والنتيجة: لم ير أحد رداً صاروخياً من قبل قوات الأسد أو "حزب الله" الحليف، ولا عمليات عسكرية عبر الجولان للتنظيمات الفلسطينية "الممانعة".
     سعت إسرائيل منذ الساعات الأولى للغارات الموضعية، التي قالت إنها استهدفت مستودعات لتخزين صواريخ إيرانية مرسلة إلى "حزب الله"، إلى طمأنة نظام الأسد عبر التصريحات الإعلامية لبعض المسؤولين أو "المصادر"، أو عبر وسطاء تجمعهم علاقة مع إسرائيل ونظام الأسد، مثل روسيا، وأكدت أنها غير معنية في الصراع القائم بين النظام والمعارضة، وأنها لم ولن تتدخل لتغليب طرف على آخر، وتحديداً لن تساعد المعارضة لإسقاط النظام.
     لكن ما تركته الغارات الإسرائيلية من آثار، غير تلك التي تمثلت بأرض محروقة في محيط سقوط الصواريخ من شدة انفجارها، رسالة إلى من يعنيهم الأمر من "الممانعين" أن ثمة خطوطً حمراء لن يستطيعوا تجاوزها، خارج دائرة الصراع في سوريا وعليها، وتحديداً ما يمكن أن يمثل تهديداً مستقبلياً على إسرائيل، كبر أم صغر. وبالتالي فإن ميدان اللعب محصور في الداخل السوري ولن يسمح بأن يتعدى ذلك الميدان.
     كما أكدت الغارات، ما بات معروفاً، من أن المجتمع الدولي غير معني في تغليب طرف على آخر في الصراع الداخلي السوري، طالما أن الأمر يبقى بعيداً عن أي تأثير سلبي على إسرائيل، حليفة الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، وغير العدو لروسيا والصين بل ربما الصديقة. وليس صدفة بالتالي أن تكون المواقف السياسية للدول المفترض أنها على طرفي نقيض إزاء الأزمة السورية، متقاربة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.
 
                                   احتمالات المستقبل
     لن يكون مستقبل الصراع في سوريا مفتوحاً إلى ما لا نهاية، وإذا اتسع المدى الزمني، فإنه سيبقى مؤطراً ضمن ضوابط محسوسة ومحسوبة في الميدانين السياسي والأمني للاعبين الكبار. ولسبر غور الاحتمالات، لا بد من وضع تصور لحالة كل من اللاعبين الأساسيين والفرعيين في ميدان الأزمة السورية:
1 محلياً: اللاعبان المحليان في الأزمة السورية هما النظام المدعوم بقوة نار وبجيش عقائدي شبه طائفي، مدعوم بدوره من مليشيا طائفية جرى تشكيلها في النصف الأخير من العام الثاني للأزمة؛ والمعارضة السورية المهشمة سياسياً في الخارج تبعاً لمصالح اللاعبين الأساسيين دولياً وإقليمياً والمبعثرة عسكرياً في الداخل بين "جيش سوري حر" محروم من التسلح، ومجموعات إسلامية متطرفة تُموّل وتُسلّح لغايات "بعد سورية" ـ خصوصاً إقليمية وعلى صلة بترتيبات ما بعد الحراك العربي الذي أسقط عدداً من أنظمة المرحلة السابقة.
أ : نظام الأسد: تمكن نظام الأسد من الصمود عامين بعد التظاهرات السلمية التي دعت إلى سقوطه، وبذلك فاقت قدرته على التحمل والصمود كل الدول العربية التي شهدت حراكاً في الشارع، كما تفوقت دمويته على نظامي معمر القذافي في ليبيا وعلي عبدالله صالح في اليمن، اللذين خُلعا؛ الأول بقوة تدخل الغرب وقُتل على يد مواطنيه، والثاني تنحى بعد أخذ ورد ومحاولة اغتيال كادت أن تقتله، وبضغط خليجي. لكن في المقابل فإن نظام الأسد فقد السيطرة على أكثر من 60% من سوريا، وبات على بون شاسع عن مواطنيه خصوصاً السنة الذين يمثلون الأغلبية الساحقة طائفياً وقومياً بعدما سفك دم عشرات الألوف منهم. كما أنه لم يكن ليصمد لولا الدعم المباشر، عدة وعتاداً ومالاً وأفراداً من التحالف الشيعي الإيراني ـ العراقي ـ اللبناني ممثلا بـ"حزب الله" و"عصائب أهل الحق"، والسياسي الديبلوماسي الروسي / الصيني، بل وبالضغط الإسرائيلي على الغرب لعدم السماح بسقوطه من دون توفير بديل لا يقل عنه قدرة على تهدئة جبهة الجولان، وبالتالي فإن نظام الأسد يصبح ضعيفاً في مواجهة الشعب السوري الذي كسر جدار الخوف ولن يتراجع حتى ولو لم تتكلل ثورته بنصر ناجز، ومثقلاً بسداد فواتير الدعم الخارجي بشتى صنوفه، وبالتالي فإن صموده واستقراره مرحلياً لا يعني ثباته استراتيجياً، وسوف يكون الحلفاء والخصوم الخارجيون أمام عملية بحث جدّية عن بديل.
ب : المعارضة السورية: بل المعارضات السورية؛ السياسية والعسكرية. إن المعارضة التي نشأت أساساً في الشارع وفي حراك سلمي، قد تحولت بفعل دموية النظام المدعوم خارجياً، إلى معارضة سياسية مشتتة في الخارج مرتبط بعضها المؤثر بأجندات ومصالح دولية وإقليمية، ومعارضات مسلحة في الداخل بعضها (العلماني) يفتقر إلى التمويل والتسليح والتنظم، وبعضها (الإسلامي المتطرف) ممول ومسلح ومنظم لكنه أقلية وغاية حربه ضد النظام لا تتقاطع مع أهداف الشعب السوري بالانعتاق والتحرر وارساء الديموقراطية والتعددية، إنما بخلفية رجعية تريد العودة بالمجتمع الى عهود انقضت وباتت في غياهب التاريخ مثل إعادة الخلافة وخلاف ذلك من أوهام، على أن تلك التنظيمات ممولة من قبل أطراف ودول متعددة الغايات، ما يضفي بعداً تآمرياً أحياناً على مسار الأحداث عندما يكون الإتجاه نحو التغيير الديموقراطي التعددي، الذي يقوض أنظمة غير ديموقراطية ويكشف زيف "الديموقراطية الإسرائيلية" و"همروجة" حقوق الإنسان المستخدمة وفق غايات محددة من قبل الغرب المتقدم. إن المعارضة السورية بشقها الداخلي العسكري باتت منهكة وهي غير قادرة على إدارة مناطق نفوذها التي تسودها الفوضى وتشارك في حكمها أحياناً عصابات إجرامية، وبشقها السياسي الخارجي مكشوفة على ضعف ووهن وارتباطات خارجية، وبالتالي فهي غير مؤهلة لحكم البلاد في مرحلة ما بعد الأسد.
2 ـ خارجياً: ثمة لاعبان أساسيان دولياً، ومثلهما إقليمياً. دولياً اللاعبان الأساسيان هما الولايات المتحدة وتدور بفلكها الدول الأوروبية وحليفات واشنطن في أماكن أخرى، وروسيا ومعها الصين وحليفاتها في تجمع دول "البركس"؛ إقليمياً اللاعبان الأساسيان هما: إيران والتحالف الشيعي اللبناني / العراقي في جانب، وإسرائيل في جانب آخر. أما تركيا فلم تثبت نفسها كلاعب رئيسي رغم انغماسها في الأزمة السورية، لغير سبب متعلق بالفكر السياسي الذي تنطلق منه في علاقاتها الديبلومسية و/ أو بالوضع الداخلي والتعقيدات الإثنية فضلاً عن عدم قدرتها على التصرف من خارج إجماع دول حلف شمال الأطلسي وهي العضو في هذا الحلف، وبالتالي يمكن استثناء أنقرة من اللعب في مساحة الأزمة بشكل مؤثر بإرادتها وليس لعدم قدرتها.
أ : روسيا والولايات المتحدة وحلفاء كل منهما: تبدو روسيا من أكثر الداعمين، بل هي الطرف الدولي الداعم سياسياً وديبلومسياً وأمنيا،ً لنظام بشار الأسد، لكن لروسيا مصالحها في سوريا وفي الإقليم وعلى المستوى الدولي وهي لم تعد تلك الدولة التي تحركها الأيديولوجيا، إنما المصالح بالبعدين الآني والاستراتيجي، وإذا ما بدت مصالحها تقع خارج دعم النظام فإنها لن تتورع عن تركه يسقط وحيداً. وثانياً الولايات المتحدة الحذرة من أي تدخل عسكري فيما هي تجمع عدتها للخروج من أفغانستان بعدما خرجت من العراق التي كلفتها حربها فيه نحو 3 تريليونات دولار وفق تقديرات الاقتصادي الأميركي البارز جوزف ستغليتز. كما أن الولايات المتحدة غير معنية وغير مستفيدة من وجود نظام سوري قوي يقارعها أو يعمل على المشاركة في السيطرة في الشرق الأوسط الصغير، بغض النظر عمّن يحكم سوريا: المعارضة أم آل الأسد، وبالتالي لن تُسقط الأسد لإنشاء نظام قد يكون أكثر عدائية تجاه حليفتها الاستراتيجية إسرائيل، وهي في كل الأحوال تفضل نظاماً ضعيفاً معتمداً في بقائه على قوى خارجية، وبالتالي يمنع بناء أسس لتجمع عربي قوي يمكن أن يستعيد عصر الناصرية في مصر مجدداً، من خلال منع بناء سوريا قوية.
ب : إيران وإسرائيل وتركيا: منذ ما بعد مرحلة حكم الخميني لإيران، وانتقال السلطة إلى يد المرشد علي خامنئي، مدعوماً بالباسيج والباسدران الذين باتا يشكلان محور الدولة العميقة في إيران، أصبحت غاية إيران التحول إلى دولة إقليمية كبرى تلعب دوراً محورياً بل انفرادياً خصوصاً بشأن الخليج العربي وامتداداً إلى منطقة شرق المتوسط مروراً بالعراق عبر تحالفاتها الشيعية، وتقارع الهيمنة الإسرائيلية المبنية على البعد الأمني العسكري فقط. لكن دون الحلم الإيراني ممانعة عربية ببعد قومي لما يعتبره العرب سيطرة "فارسية" وعدم قدرة طهران على نسج علاقات الند مع دول عربية كبرى أو ذات تأثير كبير مثل مصر والعراق وسوريا، بفرضية وجود هذا الضلع العربي للمثلث الإقليمي المتمثل بإيران وتركيا والدول العربية. وكذلك رفض دولي: غربي وروسي، لدور إيراني حاسم في المنطقة، ومنطق إسرائيلي يرفض أي دور إقليمي لأي دولة أخرى ضمن منطقة نفوذها المباشرة في المجال المتوسطي، كما أن الوضع الداخلي الإيراني غير ثابت وإن شهد استقراراً هشاً، خصوصاً بين هيمنة رجال الدين على السياسة والعمل الخفي للدولة العميقة للتحكم بمسار البلاد. وبالنسبة لإسرائيل فإن الطابع الإسبارطي للدولة والنزعة التوسعية والعدوانية في المحيط وباتجاهه والتوجه المتسارع نحو اليمين الديني بعدما أصيبت الدولة الصهيونية العلمانية بالهرم، كل تلك العناصر تجعل منها دولة قوية لكن معزولة ومنطوية على نفسها داخل قوقعة متماسكة لكن لا قدرة لها على التوسع جغرافياً واقتصادياً أكثر من المجال الذي تدور فيه حالياً. أما تركيا الحائرة في سياستها الخارجية بين مبدأ "صفر مشاكل مع الجوار" والجوار الإشكالي في تكوينه ومساره، وبين الغوص في الشرق والبقاء على ارتباط بالغرب، والمشغولة في تسوية الصراع التاريخي التركي ـ الكردي بما يضمن عدم خروج الجغرافيا الكردية / التركية على السيادة التركية كدولة مركزية، فإنها لا تبدو راغبة في أكثر من أن تكون لاعباً مؤثراً في المنطقة لكن ليس أساسياً، وتعتمد على مؤازرة الآخرين وليس على فرض سياساتها عليهم.
     الخلاصة هي أن اللاعبين الداخليين في سوريا غير قادرين على حسم الصراع من دون مساعدة اللاعبين الخارجيين، واللاعبين الخارجيين منقسمون بين من لا يريد لسوريا أن تكون دولة مركزية قوية، وبين من لا يملك القدرة أو الإرادة لـ / وعلى مساعدة السوريين في بناء الدولة المركزية القوية. أما بشأن الصراع فإن التوجه الدولي كان منذ البداية عدم السماح بحسمه لطرف على حساب طرف آخر، وتفضيل إضعاف سوريا لكن من دون السماح بتقسيمها إلى دويلات طائفية، وإطالة عمره لكن ليس إلى ما لا نهاية،. والحل المفترض ضمن الخارطة هذه، هو بناء دولة ضعيفة وغير متماسكة داخلياً ترتبط مصلحياً بعضها بالبعض الآخر لكن تتباعد طائفياً؛ وفي المدى الأوسع، ضمان عدم قيام أي نوع من التعاون العربي ـ العربي، سواء على أسس فدرالية أو كنفدرالية، والإبقاء على الدول ككيانات متناحرة إحداها يخشى الآخر، وهذا هو الحلم الاستعماري الغربي منذ القدم، وقد تبلور بعد الحرب العالمية الأولى بشكله المعروف، وهو لم يتغير لا شكلاً ولا مضموناً في الوقت الحاضر.