الجمعة، 28 ديسمبر 2012

الربيع العربي ـ2: موسم القطاف السوري



http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=552982

لمستقبل - السبت 29 كانون الأول 2012 - العدد 4560 - ملف - صفحة 11



أنيس محسن
عامان مرا على الحراك الشعبي العربي، الذي عرف بـ"ربيع العرب" المسمّى الذي اتفق عليه الجميع، حتى مر الحراك في سوريا، أحد أضلع محور ما يسمى بـ"الممانعة"، فاستحال عند مريدي هذا المحور "شتاء اسلامياً". إلا أن ما جرى خلال العام الفائت وما زالت تداعياته تتردد، خصوصا في تونس ومصر، وكذلك في ليبيا، يجعل من هذه التسمية، موقفاً سياسياً، أكثر منه واقعاً معاشاً، مع عدم التقليل من قوة أحزاب "الإخوان المسلمين" وقدرتها على قطف ثمار الثورات، لأسباب عدّة، أهمها: أن المجتمع العربي مجتمع محافظ بطبيعته ومسلم بانتمائه الديني، وأن تلك الأحزاب بتركيبتها الذكورية الشرقية، المتماهية مع المجتمعات الإسلامية المحافظة، تمتلك القدرة على بناء علاقات هرمية أقرب إلى تركيبة الأحزاب الشمولية اليسارية منها واليمينية، وأن المرحلة السابقة طبعت بالعلمانية لأن حكامها كانوا يدّعون العلمانية، فمال الشارع الى من يرفع لافتات الإسلام السياسي.
يقود التوصيف هذا إلى الحديث عن أحد أكثر فصول "الربيع العربي" شدّة وصعوبة، أي الوضع الدموي في سوريا حيث تنبئ كل التطورات بأنها ستكون بمثابة موسم القطاف التالي في هذا الربيع الصعب، وخصوصا أن طاغية دمشق بشار الأسد يزعم انتماءه العلماني أيضا، فيما يرفع "ممانعون" وحتى روسيا وأميركا وبعض أوروبا، فزاعة دخول المتطرفين الإسلاميين بقوة على خط الثورة بعدما تأخر الشرق والغرب في مد يد المساعدة لثوار سوريا.
على أن التطورات منذ انطلاق باكورة الحراك الربيعي في نهاية 2010 في تونس، وانتقاله في 2011 الى مصر والقطاف السريع في تلك الدولتين، ثم في اليمن وليبيا، ومجريات الأحداث في 2012، تشير إلى أن كثيرا من التوصيفات السلبية، المقصودة أو غير المقصودة، التي الصقت بـ"الربيع"، تدحضه النتائج التي تحققت، وتلك التي يُنتظر تحققها، في درب تغيير طويل، بدأ ولن يتوقف قبل أن تتحقق أهدافه.
ففي ليبيا التي عانت مخاض ولادة صعبة، لم تبرأ بعد من آثارها الجانبية وآلامها، ما جرى مثل صفعة لكل الندّابين ، فـ"القاعدة" لم يعلن إمارته الليبية بعد سقوط القذافي، بل إن الليبيين أنفسهم مالوا في غير حادث إلى مواجهة المتشددين الإسلاميين، السائرين على خطى "القاعدة"، خصوصا في بنغازي، حيث هاجم مدنيون مسلحون ثكنتين على مرحلتين، كانت تشغلهما مجموعات متشددة، شاركت في القتال ضد كتائب القذافي، وأجبرتها على التخلي عن الثكنتين، والإنسحاب بعيدا.
وعندما حان وقت الانتخابات العامة، انقسمت ليبيا، سياسيا، بين فريقي ائتلف كل منهما وفق ميوله العقائدية: الإسلاميون من جهة والعلمانيون من جهة أخرى. ولأن الانتخابات جرت بنظام مختلط؛ أي انتخاب على أساس اللوائح الحزبية، وعلى أساس الترشيح الفردي، فإن النتيجة جاءت على المستوى الحزبي وبفارق كبير لمصلحة العلمانيين في الانتخابات التي جرت في 7 تموز 2012. وعلى المستوى الفردي، حيث جرت عملية انتخاب 120 عضوا في "المؤتمر الوطني العام" (البرلمان)، كانت قد غلبت المصالح الذاتية وجرت الانتخابات على أسس شخصية محضة، بطابع عشائري في معظم الأحيان، ما خفف من وهج انتصار العلمانيين، ومكن الإسلاميين، وهم خليط بين السلفية و"الإخوان"، من اللعب على المصالح الشخصية، مستفيدين من دعم مالي عظيم من دولة تؤازر "الإخوان" في كل دول "الربيع"، فعرقلوا قدرة العلمانيين على ترؤس البرلمان لكنهم فشلوا في تشكيل الحكومة الانتقالية التي آل تشكيلها إلى شخصية ليبرالية.
وبخلاف ليبيا التي حكمها معمر القذافي منفرداً، بعدما دمر كل مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، في تونس، وعلى الرغم من فساد السلطة الحاكمة خلال عهد زين العابدين بن علي، فإن مساحة ولو كانت ضيقة من الديموقراطية الشكلية، أتاحت لبعض الأحزاب أن تنشط، ومنها "حركة النهضة"، النسخة التونسية لأحزاب "الإخوان المسلمين"، التي شهدت أشهر عسل مع الحكام في بعض المراحل، ومواجهات عنيفة في مراحل أخرى، سواء في عهد الحبيب بورقيبة أو عهد الرئيس المخلوع بن علي.
حركة "النهضة" وريثة "حركة الاتجاه الإسلامي"، هي ممثلة التيار الإسلامي في تونس التي تأسست في سنة 1972 وأعلنت رسميا عن نفسها في حزيران 1981 ولم يتم الاعتراف بها كحزب سياسي الا في سنة 2011 من قبل حكومة محمد الغنوشي المؤقتة بعد مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي البلاد على إثر اندلاع الثورة التونسية. وقد تمكنت من الفوز في الانتخابات العامة في تشرين الأول 2011، مكتسحة مقاعد المجلس التأسيسي. على أن "النهضة" سعت الى تثمير هذا الفوز بفرض نموذجها على المجتمع التونسي المنفتح، وإن بمرونة. هذا المسعى جوبه برفض شعبي، خصوصا مع قيام سلفيين متطرفين، وعناصر مؤيدة لـ"النهضة" طيلة العام 2012 بممارسات قمعية تجاه المجتمع المدني التونسي، فيما كانت السلطة "النهضوية" تفشل في حل المشكلات الاقتصادية التي سقط بن علي بسببها، وهكذا انتهت سنة 2012 بمشهد يشبه كثيرا نهاية سنة 2010، عندما بدأت تظاهرات خجولة ضد السلطة السابقة، وتحولت تدريجا الى ثورة عارمة.
في مصر، كان الحراك أكثر وضوحاً. فاز الرئيس محمد مرسي بالرئاسة بدعم من القوى العلمانية في الثورة، في مواجهة منافسه المحسوب على النظام السابق اللواء أحمد شفيق، وبفارق ضئيل. سعى "الإخوان" إلى فرض سيطرتهم المطلقة.. أصدر مرسي إعلاناً دستورياً جديداً يعطي لنفسه فيه صلاحيات تفوق تلك التي امتلكها مبارك. ثار الشارع، وحصلت مواجهات. أقرت لجنة مكلفة وضع دستور جديد، يسيطر عليها "الإخوان" كان قد انسحب منها ممثلو الاحزاب العلمانية والمجتمع المدني، دستورا جديدا للبلاد. حصل اشتباك سياسي ثان، وحدد مرسي موعدا للاستفتاء على الدستور رغم اعتراض القوى المعارضة. جاءت نتيجة الاستفتاء لمصلحة "الإخوان" لكن بغالبية 63% من اقل من ثلث المصريين، حيث المقاطعة كانت هي الراجحة.
أثبت المصريون أن الثورة لن تتوقف، وأن مواسم القطاف فيها كثيرة، وأن لا عودة إلى الوراء واستنساخ عهود ثاروا عليها. والموسم المقبل سيكون في غضون شهرين عبر انتخابات مجلس الشعب.
في اليمن، حيث التغيير كان جزئياً، إذ أزيح الرئيس علي عبدالله صالح عن سدة الحكم، لكن من دون تغيير جوهري في مفهوم الحكم، ولا في شكل النظام. لكن المشاكل لا تزال قائمة؛ في الشمال المضطرب كما في الجنوب المطالب بالانفصال.
في فلسطين، حيث الاحتلال الاسرائيلي جاثم في قلب الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحول قطاع غزة المحاصر برا وبحرا وجوا. لا يزال الربيع بحاجة إلى أكثر من فصل كي يعلن أن الثمار أينعت وحان القطاف. نصران تحققا في سحابة العام 2012؛ فشل الحرب الإسرائيلية الثانية على غزة "حماس" في تحقيق أهدافها خصوصا مع التضامن الواسع الذي ابدته خصوصا دول "الربيع العربي" معلنة أن الربيع ذاك إنما هو "ربيع فلسطيني" أيضا، وفوز فلسطين بمركز عضو مراقب في الأمم المتحدة على الرغم من كل التهديد والوعيد الإسرائيلي والأميركي. لكن النصرين يحتاجان الى تثمير أقله تحقيق المصالحة والوحدة ونبذ الانقسام.
أما سوريا، التي تعاني منذ نحو عامين، وتنزف دماً بسبب "ممانعة" نظام عائلة الأسد لعملية التغيير، فإن الثورة بلغت حد اللاعودة، وإن طال التغيير، فإنه واقع لا محالة، وربما بشكل جذري أكثر مما شهدته باقي دول "الربيع". تغييراً يعيد سوريا الى مجدها، ويعلن عبرها قيام ديموقراطية عربية ذات شأن.
إن التدخلات والتداخلات في الأزمة السورية، ودخول عامل العنف أساسيا في حركة الصراع بعدما ترك الشعب الناشط سلميا في الشوارع وحيدا أمام آلة القتل، إنما تعبير عن أن التغيير بات قدراً لا مهرب منه ولا رجوع عنه.
وإذا كانت مواسم فصول "الربيع" في دنيا العرب لا تزال مستمرة، وتعلن كل يوم جديدا منذ سنة 2011 وعبورا الى سنة 2012.. فإن موسم قطاف لا بد سيكون الأكثر تميزا، قادم في العام 2013 إلى سوريا ومنها، وبعدها يمكن البدء في إعادة بناء العلاقات العربية ـ العربية، والعربية ـ العالمية، بعيدا عن ارتهان حكام العهود السابقة للغرب أو الشرق، في مواجهة شعوبهم، بهدف البقاء في سلطة.. لو دامت لغيرهم لما وصلت إليهم.