الثلاثاء، 20 يوليو 2010

الأزمة الفلسطينية بين لوثة السلطة عند حماس وتفكك فتح

المستقبل - الجمعة 3 تموز 2009 - العدد 3352 - شؤون عربية و دولية - صفحة 14

http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=355617

أنيس محسن
المتابع للتطورات الفلسطينية يمكن ان يلاحظ بلا عناء توجه حركة "حماس" نحو التسوية السلمية مع إسرائيل بعدما كانت ترفض اي تسوية سياسية مع "الكيان الغاصب للأرض والمقدسات"، وتضع المقاومة المسلحة في مقدمة الصراع وخاتمته، ما يشير الى مسار سلطوي عند تلك الحركة التي استولت على قطاع غزة قبل نحو عامين.
وفي سياق اخر، فإن حزب السلطة حركة "فتح" التي كانت تسلمت زمام الأمور، ليس بعد اتفاق أوسلو، انما منذ هزيمة حزيران 1967، باتت في مرحلة متقدمة من التفكك التنظيمي، علما انها كانت جلست على عرش السلطة منذ توليها قيادة منظمة التحرير في نهاية عقد ستينيات القرن الماضي.
وكانت "فتح" نجحت في تحويل المنظمة الى مرجعية سياسية (كيان غير جغرافي) للشعب الفلسطيني مقبول دوليا، خصوصا مع اطلاق البرنامج المرحلي في السنوات الأولى لسبعينيات القرن الماضي.
وبين هذا وذاك، تبدو فصائل اليسار غير قادرة على تشكيل بديل عن سلطتي "فتح" او "حماس"، داخل الكيان السياسي (منظمة التحرير) او عبر طرح مشروع بديل (كان في مرحلة ما قبل اتفاق اوسلو وبعده مباشرة يطلق منطقاً يتكرر الآن مفاده ان المشروع البديل موجود اصلا وهو المقاومة).
مراجعة عامة ايضا، تظهر أن كل فصيل تولى السلطة كان قبلها مغرقاً في نوع من التطرف، العسكري او الفكري او السياسي.
"فتح" على سبيل المثال، نزعت منذ انطلاقتها في 1965 الى طرح الفكاك عن الحالة العربية المباشرة نحو تعاون ندي، علماً ان طرحاً كهذا كان مستحيلاً بسبب غياب الحاضنة الجيوسياسية واستحالة تأسيس سلطة خاصة بلا ارض. فعلى الرغم من التأييد الرسمي والشعبي لظاهرة المقاومة حينه، الا ان اياً من الدول العربية لم تكن بوارد اعطاء الفصائل الفلسطينية مرتكزاً جغرافياً تبني عليه سلطة ثورية، بخلاف ما كان حاصلاً في فيتنام والجزائر ودول اسيوية وافريقية عدة، حيث بنيت السلطة الثورية داخل اراضيها المحكومة بأنظمة تابعة للاستعمار او مستعمرة بشكل مباشر، او على اراضي بعض دول الجوار المشتبكة مع الغرب في الحرب الباردة.
كاد الأمر ان يتغير مع الفشل العربي التاريخي الذريع في 5 حزيران 67 والهزيمة الماحقة بالنظام الرسمي العربي عامة، و"الثوري" خصوصا متمثل بمصر وسوريا وخلفهما العراق والجزائر، فحركة "فتح" ومعها الفصائل اليسارية في الاردن، تمددت بعد معركة الكرامة 1968 والصمود البطولي للفدائيين، الى مناطق بعيدا عن الحدود الاردنية مع فلسطين المحتلة، وصولا الى عمّان وتأسيس سلطات للفصائل على حساب النظام العام، احيانا داخل كل حي من الاحياء، على ان السمة العامة كانت سيطرة "فتح" السياسية على الوضع.
اسهمت الفوضى في السلطة ونشوء "سلطات الفصائل" التابع بعضها لدول عربية (خصوصا سوريا والعراق)، في انفضاض شعبي اردني عن المقاومة، استغلته السلطة الضعيفة بدعم من الغرب في معركة لاسترداد النظام العام، واسفرت عن حرب طاحنة سقط فيها الألوف من الضحايا، وعن طرد الفصائل من الأردن مطلع سبعينيات القرن الماضي، وبالتالي خسارة الحاضنة الجغرافية للسلطة الثورية.
خسارة الفصائل، و"فتح" على رأسها، الخاصرة الأردنية الضعيفة، وجهها وبدعم اقليمي نحو خاصرة ضعيفة اخرى تمثلت بلبنان، الذي يعاني من اختلافات كبيرة حول مفهوم السلطة فيه، المعطاة للطوائف وفقا لأولويات كانت المارونية السياسية في مقدمتها، ومن تأثيرات التنازعات الاقليمية والحرب الباردة بين الشرق السوفياتي والغرب الرأسمالي، في مرحلة طبعت بـ"الثورية" وارادة الانعتاق لدى شعوب رزحت طويلا تحت نير الاستعمار المباشر، او غير المباشر.
في لبنان، غابت السلطة ايضا، وتشكلت سلطة رديفة، تمثلت بمنظمة التحرير بقيادة "فتح" خصوصا، لكن لم تكرر تجربة السلطات المتعددة للفصائل، وظل الطاغي هيمنة المنظمة ظاهرا و"فتح" عمليا، بمشاركة الفصائل الاخرى. وفشل لبنان في تكرار تجربة الأردن، بل افضت مساعي الحل العسكري الى توقيع اتفاق القاهرة الذي اعطى المقاومة الفلسطينية موقع قدم في العرقوب، او ما عرف بـ"فتح لاند"، ليمتد لاحقا التواجد هذا الى المخيمات، ومع اندلاع الحرب الأهلية الى سيطرة شبه مطلقة على معظم الارض اللبنانية، مباشرة عبر القطاعات العسكرية للفصائل، وبشكل غير مباشر عبر الحلفاء من الاحزاب والمجموعات اللبنانية المسلحة، ثم سيطرة مشتركة فلسطينية ـ سورية، بعد التدخل السوري في آتون الحرب الداخلية في لبنان.
أوجدت اسرائيل واقعاً جديداً بعد اجتياح لبنان في 1982، واخراج منظمة التحرير وتشتيتها بين تونس واليمن والجزائر، ثم تصدي سوريا لمحاولة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في 1983 العودة مجددا الى لبنان عبر البقاع والشمال، تحت وطأة عدم قيام سلطة رسمية قوية بعد المباشرة بالانسحاب الاسرائيلي اولاً من بيروت ثم الجبل ومناطق في البقاع ومعظم الجنوب والتمركز في ما كان يعرف بالشريط الحدودي.
فتحت تلك التطورات لمرحلة جديدة من العمل الفلسطيني، عبر عنه عرفات بشعار طالما رفعه هو "يا وحدنا" وعَبَر من خلاله ومن خلال فشله في السيطرة على بقعة جغرافية محاذية لفلسطين، الى ما كان يردده الراحل ايضا عن "دولة في اي بقعة تسترد" حتى لو سلما وبشروط تنزع صفة الثورية عن النضال الذي استمر عقودا من الزمن.
بفعل احتلال نظام صدام حسين الكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي وتأسيس تحالف غربي ـ عربي لطرده من الكويت ووعد اميركي بحل سلمي على اساس القرارات الدولية عبر مؤتمر مدريد، واستطرادا الشروع في حوار سري مباشر مع اسرائيل افضى الى اتفاق اوسلو، مبني على مكتسبات فلسطينية تحققت في انتفاضة 1987 ـ 1988، تأسست سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة كمرحلة اولى نحو قيام دولة فلسطينية، وتولت "فتح" السلطة وحدها بعدما رفضت الفصائل الاخرى، المتمثلة في منظمة التحرير مثل الجبهتين الشعبية والديموقراطية، وحركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي"، اللتين تأسستا بعد الانتفاضة الأولى، من خارج المنظمة.
كان التعدد داخل "فتح" فضفاضا جدا وأقرب الى مجتمع يحوي كل التناقضات، من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، ومن اقصى العلمانية الى قمة التدين، ومن المميزات التي امتلكها عرفات، قدرته على وضع نفسه نقطة ارتكاز كل الاتجاهات تلك، التي تتناحر في ما بينها وتجمع على قيادة عرفات.
ضمن هذا المفهوم قاد عرفات سلطة الحكم الذاتي، فكان التناقض سيد اللا منطق في ادارة الشؤون العامة، وبات الفساد مستشريا، بشكل لا ارادي من خلال غياب الناظم الفكري والتنظيمي العلمي، او بشكل ارادي من خلال احاطة عرفات نفسه ببعض الفاسدين والسماح لهم بالقيام ببعض السرقات، بهدف تمرير اموال الى فصائل المقاومة، ومنها "حماس" وتشكيلات "فتح" العسكرية المتعددة، وكل الفصائل التي لها اذرع عسكرية، وفق ما قاله اشخاص عايشوا تلك التجربة.
تعارضت في تلك التجربة ادارة السلطة وادارة الثورة، ورفض الشعب مظاهر الفساد المنفلتة من عقالها. ودخل على الخط غير تطور، ان عبر تصدي "حماس" للمقاومة بعمليات انتحارية، او عبر صعود نجم اليمين الاسرائيلي الاكثر تطرفا ممثلا ببنيامين نتنياهو بعد مرحلة اغتيال اسحق رابين، ووصوله الى الحكم في 1996، مدعوما بذريعة محاربة "ارهاب" حركة "حماس" التي تشن عمليات انتحارية مكثفة، افضت الى انفضاض الاسرائيليين عن اي توجه سلمي، لم يكونوا مقتنعين فيه اصلا كثيرا. ولم يغير وصول زعيم حزب العمل ايهود باراك بعد عامين، من الامر شيئا، وتواصلت العمليات الانتحارية، ليأتي الى الحكم ارييل شارون ويشن، بدعم من ادارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بزعامة جورج دبليو بوش، حربا على السلطة الفلسطينية، فيدمر كل مقوماتها المادية، ويعزل عرفات في بضع غرف لم تدمر في مقر المقاطعة في رام الله، وتسود فوضى عارمة ازدادت سوءا مع وفاة عرفات في ظروف ما تزال غامضة في 11 تشرين الثاني 2004، وتولي محمود عباس السلطة خلفا له.
بوفاة عرفات، لم يعد لفوضى سلطة فتح مركز يحتويها، ولم يكن محمود عباس، او اي احد غيره بمستوى يمكنه من احتواء هذا الكم الهائل من اللانظام، الذي نشأت في ظهرانيه سلطة موازية قادتها "حماس" تحت غطاء المقاومة، وافضت في اخر مراحلها الى سيطرتها الكاملة عسكرياً على قطاع غزة في حزيران (يونيو) 2007، بعدما كانت حققت قبل نحو عام من ذلك فوزا ساحقا في الانتخابات التشريعية. فخرجت "فتح" للمرة الاولى من صيغة الحكم بقوة السلاح، وهو امر لم يحدث بين الفصائل على الرغم من كل تناقضاتها في الاردن ولبنان.
بررت "حماس" سيطرتها العسكرية على قطاع غزة، بأنها عملية جراحية كان لا بد منها، وحسماً ضرورياً للتناحر مع "فتح" في القطاع. على ان استعادة لمراحل نمو "حماس" يشي بغير الاهداف تلك، بل تشير الى هدف سلطوي يتنافى عضوياً مع منظمة التحرير ككيان سياسي.
جاءت "حماس" من رحم حركة "الاخوان المسلمين"، التي لم تشترك في اطلاق الثورة الفلسطينية بعد نكبة العام 1948، بل دعت الى تسلم السلطة في الدول العربية وأسلمة المجتمعات قبل الحديث عن مقاتلة اسرائيل، وبقيت خارج اطار العمل المقاوم، بل ان شواهد تدل على انها ناصبت الفصائل، وخصوصا المنظمة عداء مبكرا، فهاجمت في مطلع سبعينيات القرن الماضي مؤسسات الهلال الاحمر التي كانت تعمل من خلالها فصائل المقاومة وكان يقود تلك المؤسسات المناضل الشيوعي الوطني البارز المرحوم حيدر عبد الشافي واحرقتها. وثمة دراسات وتقارير تقول ان قيادة الاخوان الفلسطينية طلبت من سلطات الاحتلال الاسرائيلي تسهيلات لانشاء مؤسسات بديلة عن منظمة التحرير اقله في غزة.
انطلقت "حماس" في العام 1988 بعد الانتفاضة الاولى، وفاجأت الجميع بقدرتها على التسلح، وثمة تقارير تؤكد أن اسرائيل غضت النظر عن تسلح "حماس" كونها تعرف انها تشكل نقيضا لمنظمة التحرير وان صداما سيحصل ما ان تكبر "حماس" وتقوى.
عرف ارييل شارون بحنكته كيف يوسع هوة الخلاف الفلسطيني، فلجأ في صيف العام 2006 الى الانسحاب من قطاع غزة، ولم تكد تمضي سنة، حتى تحقق لشارون حلمه، وقاتل الاخوة بعضهم البعض، وانقسم الواقع الفسطيني للمرة الاولى في تاريخه جغرافياً بين غزة والضفة، وسياسياً بين "فتح" و"حماس"، والأنكى أن وثيقة منسوبة الى نواب حركة "حماس" اقترحت اخيرا حلاً للمعضلة الداخلية الفلسطينية عبر تقسيم الشعب الفلسطيني الى 3 مناطق: الضفة وغزة والخارج، فتبقي على هيمنتها على غزة وتحيل امر الضفة الى الاحتلال الاسرائيلي، وامر الخارج الى الخلافات العربية ـ العربية، فتأخذ جزءا من هذا الخارج، وتبقي جزءا حيث لا تستطيع ان تتمدد، والهدف عدم التخلي عن السلطة.
"فتح" الخارجة من بعض السلطة بسبب تشرذمها تبدو ذاهبة الى مزيد من التشرذم، ومؤتمرها السادس المتأخر اكثر من 20 سنة عن موعده، ابرز دليل على ذلك، حيث لا اتفاق على المكان، وان حدده تيار عباس في بيت لحم، ولا اتفاق على توزيع الحقائب القيادية المتنازعة بين زعامة كبار السن، ومراكز الشباب المتعددة وغير المنسجمة، وبين غزة والضفة وبين الداخل والخارج، وفي الخارج بين مراكز القوى المتعددة والمتصارعة.
الالتفاف الشعبي حول "حماس" عقب انتخابات العام 2005 غاب تماما، وكل الاستطلاعات تشير الى ان قوة "حماس" لن تتجاوز 30% في احسن الحالات في المجلس التشريعي اذا اجريت انتخابات برلمانية الآن، فالحركة التي وعدت الناس بمقاومة حتى التحرير، باتت سلطة ترفع شعار المقاومة قولاً فقط، والحركة التي رفعت شعار التغيير والاصلاح في الانتخابات الماضية، اطاحت بكل شعاراتها متمسكة بسلطة لم تعطها من السلطة سوى شكلاً بلا مضمون، ووصلت الى حد قبول اتفاق مع اسرائيل يضمن لها السلطة، ورفضها اتفاقاً داخلياً، قد يفقدها، في صندوق الاقتراع، تلك السلطة.
بين تشرذم "فتح" وتهافت "حماس" وفقدانها الحاضنة الشعبية، يتوجب بديلاً، كان اليسار ليشكله، لولا أزمته التاريخية، بتحوله من القومية الى الماركسية (الجبهتان الشعبية والديموقراطية) كردة فعل على فشل 1967 وليس نتيجة دراسة وقرار واع، وازمته الحالية بعدم قدرته على التأقلم مع انهيار اليسار العالمي ممثلاً بالاتحاد السوفياتي، وبقائه مسكوناً بفئة المثقفين "الاكثر وعياً وثورية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق