الأحد، 19 أكتوبر 2014

ثلاثون عاماً.. ثلاثة أيام: بوخارست المتحولة بين عهدين

أنيس محسن
Lasa ma, ca merge.și așa تعبير يردده الرومانيون كي تمر المسائل بسلام؛ ومعناه «دع عنك فإن الأمور يمكن لها أن تجري هكذا أيضاً»، وربما الأقرب لهذا التعبير بالعربية أبيات منسوبة للإمام علي بن أبي طالب يقول فيها:

دع الأمور تجري في أعنتها ونم نوماً قريراً هانئ البال 

الرومانيون بطبيعتهم شعب مسالم، وفي حين أنهم مثلهم مثل كل بني البشر يحبون التغيير، لكنهم يريدونه من دون عنف ومن دون مشقة كبيرة... فالتغيير آت، والسلامة هنا بالتمهل وليس بالتسرع.

قد يكون هذا حال البلد قبل 30 عاماً حين غادرته في ختام دراستي الصحافة في معهد أصبح دارساً، بعد زهو وازدهار. فكلية الصحافة في حينه كانت تابعة لأكاديمية شتيفان غيورغيو Academia Ștefan Gheorghiu التي كانت تخرج كادر الحزب الشيوعي الروماني الحاكم، وبالطبع هم كادر الدولة. والحياة كانت تسير ببطء شديد، وليس فيها سوى «الرفيق نيوكلاي تشاوشيسكو» ورفيقة عمره ونضاله، زوجته «الرفيقة إيلينا تشاوشيسكو»، وكانت نشرة أخبار التلفزيون على الشاشة الرسمية تنقسم بالتساوي بين ذكر ألقاب «الرفيق» و»الرفيقة» والإنجازات التي حققاها في ذلك اليوم... أو التي ينويان تحقيقها، فما من شيء في البلاد سواهما، حتى المكتبات لا كتب على رفوفها سوى ما «يؤلفه» الرفيق الأمين العام للحزب ورئيس الدولة وحبيب الشعب والآمر الناهي: نيكولاي تشاوشيسكو.

وفي طرقات العاصمة، حيث درست، وهي الأكثر ازدحاماً في حينه، كانت السيارات قليلة العدد وكلها متشابهة فيما عدا اللون، وهي من طراز Daçia، النسخة الرومانية لسيارة Renault 12 الفرنسية ـ وكان اللون الأصفر لسيارات التاكسي الغالبة في الشارع والأسود لمسؤولي الحزب والأزرق للشرطة، أو سيارة رباعية الدفع من طراز Aro وهي أقل تواجدا بالطبع في شوارع العاصمة ويمكن رؤيتها أكثر في الأرياف، أمّا الأكثر تواجداً فهي الحافلات الكهربائية والترومواي، المزدحمة بالركاب بحيث تتشكل على أبوابها، في ساعات الذروة، سلسلة ملتوية من الركاب كل واحد منهم يتشبث بالآخر.

كذلك كان من المألوف المرور بمشهد الصفوف على المخابز ومتاجر بيع اللحوم، حيث ينتظر الآباء والأمهات وكبار السن وقتاً طويلاً لشراء ما يعرض عليهم، أو أنهم يفشلون بذلك بسبب نفاد المعروض.

وربما المشهد الأكثر إيلاماً هو عندما كان الطلاب والطالبات الرومانيون يتسللون إلى مهاجع سكن الطلاب الأجانب لشراء بنطال جينز أو علبة سجائر مارلبورو أو كنت، وكذلك في المطاعم حيث يستقطب الطلاب والسياح الأجانب، والكثير منهم بشعون، فتيات رومانيات غاية في الجمال، لمجرد أن أولئك يمتلكون مالاً يستطيعون من خلاله تأمين سهرة جميلة في مطعم أو سجائر أجنبية، مخاطرات بالتالي بإمكانية توقيفهن من قبل الشرطة، كون القانون كان يمنع على المواطنين الاختلاط بالأجانب.

بالطبع لم يكن هذا المشهد الوحيد، وإن كان الغالب حيث يكون هناك أجانب. ففي فضاء رومانيا كان هناك متعلمون ومثقفون وفنانون وعمال يكدّون لتأمين لقمة عيشهم، وفلاحون كرماء حين يستضيفونك في بلداتهم وقراهم. وما زلت أذكر خريف 1982، بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان وانقطاع تحويل المال لنا من أهالينا، كيف شاركنا بواب الأكاديمية، حيث درست، خبزه ولحمته المقددة، وسجائره الرخيصة، التي كان يحضرها معه، وهو يردد يومياً: عندما كنت شاباً كنا ندرس في الجغرافيا أن بلادكم اسمها فلسطين.. لم يكن هناك إسرائيل أبداً.

وعندما يثق روماني بك كأجنبي، يمكن ان يبوح بما يختلجه... بعضهم يريد ان يرى واجهات المحال ممتلئة حتى ولو لم يكن باستطاعته الشراء وبعضهم يدعو لعودة الملكية مع انه لم يختبر الملكية اذ كان قد ولد في ظل الاشتراكية التشاوشيسكوية.

كان الناظم للحياة حينها مبدأ Lasa ma, ca merge și așa، وحقيبة يد كبيرة تستخدم لوضع زجاجة من المشروب الوطني țuică وقطعة شحمة الخنزير المدخنة وما تيسر من أرغفة خبر أو بضعة أوقيات من اللحومات التي يتمكن من الحصول عليها من المتاجر اذا صادف مكانا يبيعها وهو في طريقه الى منزله او عمله لكن مهلاً Lasa ba, ca nu merge așa، «دعني فالأمور لا تجري هكذا، أو فيما يمكن استعارته بالعربية من الشطر الثاني من أبيات الأمام علي.

فما بين غفلة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال

في 1 تشرين الأول 2014، وكان قد مضى على تركي رومانيا 30 عاماً، عدت إليها لثلاثة أيام بدعوة لحضور مؤتمر تنظمه المدرسة الوطنية للعلوم السياسية والإدارية Școala Națională de Studii Politice și Administrative وهي النسخة الحديثة عن أكاديمية شتيفان غيورغيو، وهي تخرج الآن أيضا كادر الدولة بعدما صارت رومانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي.

هنا يمكن ملاحظة التغيير الذي حصل: في الشكل وفي المضمون. كانت المناسبات التي تنظمها Academia Ștefan Gheorghiu قاتمة في مبنى أنيق لكن بهندسة سوفياتية، يحضرها أعضاء الحزب الشيوعي الروماني ببذلاتهم السوداء وربطات العنق، والطلاب الحزبيون المولجون بتنظيم المناسبة يرتدون أيضاً بذلات رسمية وقلمّا ترى أحداً مبتسماً، وكأن التجهم عنصر مكون للحضور. أما المناسبة فتكون مرتبطة بالحزب أو بالحكومة؛ وبالطبع المرجعية الدائمة هي الرفيق نيكولاي تشاوشيسكو!!

أولى الملاحظات عن المناسبة التي دعيت إليها أخيراً، وهي مؤتمر عن الذكرى 130 لتأسيس المصرف المركزي الروماني، كان بعنوان: Proceedings of Strategica، واستضافتها كلية الإدارة في المدرسة الوطنية للعلوم السياسية والإدارية Școala Națională de Studii Politice și Administrative أن المبنى الجديد الذي بالكاد كان قد افتتح، طرازه أوروبي حديث، وعلى مدخله علم الاتحاد الأوروبي إلى جانب العلم الروماني. وفي داخل المبنى، كان الطلاب والموظفون الذين يستقبلون الضيوف في مقتبل العمر؛ يرتدون الجينز والثياب المتناسبة مع الموضة، بعيدا عن «جديّة» البذلات الرسمية، لكن من دون مبالغة في اتباع الموضة؛ يحضرون مبتسمين ومتحدثين بالإنكليزية والفرنسية والرومانية. وداخل القاعة حيث عقدت الندوة، رئيس للجلسة وهو استاذ في الاقتصاد في جامعة بوخارست، ومنتدون بينهم مندوب عن المصرف المركزي، وهو سفير سابق لرومانيا في باريس. استاذ الاقتصاد وأحد المنتدين كالا الأسئلة المحرجة للمحاضر الرسمي، وأوسعا الحكومات المتعاقبة ملاحظات وانتقادات علمية على تقصيرها، وهو ما لم يستطع الضيف الرسمي الدفاع عنه منبرياً بنفسه في تقديم انتقادات خجوله، من موقعه كمسؤول رسمي معني بما للمصرف المركزي من مسؤوليات في التخطيط المالي.

لو حدث مثل هذا الأمر في Academia Ștefan Gheorghiu لكان رئيس الجلسة والمنتدي والمسؤول في المصرف المركزي في خبر كان!!... إذن هي حريّة الرأي التي لطالما طالب بها الرومانيون الذين كنت التقيهم قبل 30 عاماً، لكن بصوت خافت.

أما شوارع بوخارست وأبنيتها، حتى القديمة التي لا تزال قائمة منها، فهي بحال غير تلك التي اعتدتها قبل 30 سنة. مبان حديثة شاهقة مدججة بالأضواء و»أسواق تجارية» (مولات) في كل ناحية، ولوحات إعلانية، متاجر لكل الماركات العالمية، والسوبرماركت منتشرة في كل تجمع فيها منتجات من كل أنحاء العالم... وعجقة سير خانقة بعدما باتت الشوارع تضيق ربما بمئات آلاف السيارات من كل الطرازات العالمية... وفي بوخارست العتيقة، فقط احجار المباني القديمة، المحدّثة، على حالها، أما المطاعم والمحال التجارية فهي شيء آخر، بحيث استحالت تلك المباني بشكل يستحيل على من هم مثلي لم يطأوا المدينة منذ 30 عاماً أن يتعرفوا عليها. أمّا زبائن تلك المطاعم فهم شبان وشابات رومانيون لا يحتاجون إلى طالب أو سائح أجنبي ليدفع الفاتورة، فلديهم ما يكفي كي يعيشوا الحياة التي حلم بها آباؤهم وأمهاتهم.

لكن ماذا تريد رومانيا الرسمية، وكيف ستكون سياسة هذه الدولة القادمة من «ديكتاتورية اشتراكية تشاوشيسكوية» إلى رحاب اقتصاد السوق والعلاقات الدولية المفتوحة؟

ما لا شك فيه، أن البعض ينتقد بشدة هذا الوجه الاستهلاكي والرأسمالية المتوحشة التي تعانيها رومانيا، والتي تسببت في مشكلة لم تكن موجودة في العهد السابق: أي المتشردون الذين لا يملكون عملاً ولا مأوى يؤويهم صبّارة برد شتاء تتدنى فيه الحرارة الى ما بين 10 درجات تحت الصفر و30 درجة تحت الصفر، والذين يمكن ملاحظتهم في أكثر من زاوية اذا ابتعد المرء قليلاً عن الوسط التجاري، الذي يبدو أنه غير مسموح لهم الاقتراب منه. وكثيرون هم الذين ينتقدون بشدّة التخطيط الفاشل خصوصاً للشوارع والأوتوسترادات، التي تتسبب بهدر كبير للمال العام ولا تفيد حركة المرور داخل بوخارست أو بينها وبين أطراف البلاد. فمثلاً لم يكتمل عدد المشاركين في الندوة التي دعيت إليها وحضرتها في ذلك اليوم، بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى مكان انعقادها تبعا لأزمة السير الخانقة التي تزامنت مع عودة التلاميذ والطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم.

وماذا عن سياسة رومانيا الخارجية، أسأل أحد المسؤولين؟... بل ماذا عن المستقبل؟، فيجيب: في السياسة الخارجية ركزت رومانيا في المرحلة الانتقالية الأولى على تنظيم نفسها داخلياً بما يمكّنها من أن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي؛ وأهملت تماماً علاقاتها في دول الشرق الأوسط وما كان يعرف بالدول النامية، التي ربطتها أيام النظام السابق علاقات سياسية واقتصادية مهمة، مكنت رومانيا من أن تلعب دور الوسيط في أكثر من أزمة وتستفيد اقتصادياً من موقعها الوسطي هذا بين الشرق والغرب في الحرب الباردة؛ والآن فإن رومانيا تعود لمحاولة استعادة تلك العلاقات للاستفادة ـ عبر موقعها الأوروبي ومن ماضي علاقاتها الخارجية ـ بالعمل مجددا، في السياسة، على لعب دور الوسيط، لأن لا مشاكل لها مع أحد وهي ترتبط بعلاقات جيدة مع كل بلدان العالم.

أما داخلياً، فإن اختيار الحكّام بات رهن الشعب عبر انتخابات حرة، مرّة يفوز بها الاشتراكيون، وأخرى اليمين، ثم تجري محاسبة الفائز في دورات الانتخابات اللاحقة على ما تحقق أو لم يتحقق.

واقتصادياً، فإن رومانيا، وفق المسؤول نفسه، تتجه نحو الاستفادة من أخطاء الفترة الانتقالية التي سادتها الفوضى، وكثر فيها الفساد، للتوجه نحو انتشال الأطراف من تهميش اقتصادي تسبب في حالات فقر حقيقية لبعض سكان الأطراف، ولمحاربة الفساد عبر آليات دولية ومحلية أوجدتها الاتفاقات التي وقعتها رومانيا مع الولايات المتحدة، وكونها عضوا في الاتحاد الأوروبي، وقد استدعي بناء عليها عدد كبير من السياسيين ومنهم من شغل مناصب رفيعة، الى المحكمة في قضايا فساد مرفوعة في الولايات المتحدة او الاتحاد الاوروبي، ولا يمكن للقضاء في رومانيا سوى التعامل معها بجديّة وصرامة، كما أن القضاء الروماني يتحرك أيضا في قضايا داخلية، وهناك الكثير من النافذين المتهمين بالفساد إما موجودون داخل السجون أو أنهم يخضعون للمحاكمة.

رومانيا تسعى للتقدم، لكن ما لا شك فيه أن ذلك لن يكون سهلاً، فكثيرة هي الملفات التي ورثتها من المرحلة الانتقالية الأولى المليئة بالفوضى والفساد، وحلها يحتاج إلى مزيد من الوقت، فضلا عن تأثر رومانيا أكثر بعدما انفتحت على الخارج، في الأزمات الاقتصادية العالمية.
http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=636254