المستقبل - السبت 8 تشرين الثاني 2003 - العدد 1447 - شؤون عربية و دولية - صفحة 15
http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=37735
أنيس محسن
لا يحتاج المرء الى كثير من الجهد لتفكيك الفكر السياسي والاقتصادي للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة، بل تكاد تكون بداية اختباراتهم عن "اصلاح العالم غير الديموقراطي" حاملة بذور فشلها السريع. ان محور فكر هذه الفئة من السياسيين الاميركيين هو نشر النموذج الاميركي في العالم انطلاقا من الشرق الاوسط وتحديدا الدول العربية، اما داخليا فضرب كل المكتسبات الاقتصادية للمواطنين العاديين من خلال تقليص الضمانات الاجتماعية وتخفيف العبء الضريبي عن الفئة فاحشة الثراء.
على الصعيد الخارجي، تبدو بذور التروتسكية "للآباء المؤسسين" ظاهرة من خلال تحويل شعار الثورة البروليتارية المستمرة الى شعار "الثورة الديموقراطية العالمية" (ذكرها الرئيس الاميركي جورج بوش في كلمته اول من امس خلال الاحتفال بعشرينية الصندوق القومي للديموقراطية في واشنطن). ان اول غيث هذة "الثورة الديموقراطية العالمية" كان غزو العراق، فيما غزو افغانستان يُعد مجرد "بروفة" للمرحلة الابتدائية الاساسية من ثورتهم تلك. وكل شيء جاء وفق المنطلقات التي بشر بها "الآباء المؤسسون" لحركة المحافظين الجدد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وطورها الابناء في الثمانينيات والتسعينيات ومطلع القرن الحالي. فمؤسسات المجتمع الدولي تم تجاهلها عندما فشلت الادارة الاميركية في احتوائها وشُنت الحرب على العراق بأُحادية اميركية مطلقة. اما الحلقة الاخرى من سلسلة الفعل فتتمثل بالقضية الفلسطينية، حيث التأييد المطلق لإسرائيل (الليكودية بالطبع) والاستخفاف المطلق بالفلسطينيين والعرب هو محور تلك الحلقة، فالامن لإسرائيل حصرا و"التغيير الديموقراطي" واجب فلسطيني اساسه "تدمير البنى التحتية للمنظمات الارهابية".
قد يكون من السابق لأوانه اعطاء حكم نهائي على نهاية سلسلة نشاط المحافظين الجدد من البداية، اي المقاومة في العراق والممانعة الفلسطينية. لكن قد يكون تعبير "المكتوب يُقرأ من عنوانه" صحيحا في هذه الحالة، حيث ان مقاومة العراقيين تبدو تصاعدية وليست فقط من صنع اتباع النظام السابق ومتسللي "القاعدة" عبر الحدود الى بلاد الرافدين، وهي تأخذ بعدا وطنيا، ورفد المقاومة يأتي من جزء لا يُستهان به من الشعب العراقي، وقد يتبلور الامر اكثر مع مرور الوقت وسقوط المزيد من الخسائر في صفوف الاميركيين. اما مسعى عزل رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات والبحث "المجهري" عن بديل منه استحال التفافا شعبيا اكبر حوله فيما رفض اكثر السياسيين الفلسطينيين قربا من واشنطن ان يكونوا بدلاء. والامر هنا ابعد من مجرد التفاف فلسطيني قد يبدو معزولا لو اقتصرت المسألة على هذه الحدود فقط. فالبعد العربي للقضية الفلسطينية لم ينضب وقد مثله نبض الشارع الذي ملأه المتظاهرون الداعمون للقضية الفلسطينية اكثر مما مثلته براغماتية الانظمة. وابعد من ذلك، فإن الاستفتاء الاوروبي الاخير الذي اعتبر اسرائيل الدولة الاكثر خطرا على الامن العالمي يُعد ناقوس خطر يتهدد بعزل اسرائيل التي سارع حتى البعض في حزب الليكود الى الدعوة لضرورة التنبه له والالتفات مجددا الى اوروبا "التي تجاهلها الاسرائيليون في العقود الثلاثة الاخيرة" وفق وزير الخارجية سيلفان شالوم، بل ان الممانعة العالمية لمسار السياسة الخارجية الاميركية ازاء هاتين الحلقتين قد تعيد الولايات المتحدة الى الانعزال قصرا فيما المحافظون الجدد يبنون سياستهم الخارجية على اساس التفاعل الاميركي مع الخارج بخلاف المحافظين التقليديين الميالون اكثر الى الانعزال الاميركي.
ويُقدم ايمانيول تود في كتابه "ما بعد الامبراطورية .. دراسة في تفكك الامبراطورية الاميركية" تحليلا منطقيا لفكر المحافظين الجدد حيث يشير الى تجاهل الولايات المتحدة للمكونات التاريخية والاقتصادية والديموغرافية والاجتماعية للبلدان المعنية بالتغيير اميركيا، وهذا يقود بالتالي الى اخطاء تكتيكية واستراتيجية تنقلب في نهاية المطاف على الولايات المتحدة التي باتت قوة تكنولوجية عسكرية تفتقد الى قاعدة اقتصادية وبشرية تدعم مغامراتها الحربية الواسعة.
اما على الصعيد الداخلي، فالامر اقل تعقيدا، حيث يتقارب المحافظون الجدد والتقليديون ممارسة وفكرا. واساس طرحهم الاقتصادي المزيد من الليبرالية التي تأتي لصالح الاثرياء على حساب الفقراء وقد عبر عنها برنامج الرئيس بوش لخفض الضرائب عن كاهل الاغنياء، ووفق حسابات الاقتصادي الاميركي والمعلق في صحيفة "نيويورك تايمز" بول كروغمان فإن السياسة الاقتصادية لإدارة بوش (وهي اكثر الادارات تمثيلا للمحافظين الجدد) وُضعت لمصلحة 0.01% من الاميركيين. واذا كان الاقتصاد محرك العملية السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، لنا ان نتوقع كيف ستحتسب الاصوات في الانتخابات المقبلة، ولا يقلل من هذا الشأن الارتفاع غير المسبوق للناتج القومي الاميركي في الفصل الثالث من العام الحالي، اذ انه جاء نتيجة الانفاق الكبير على المجهود الحربي وليس من خلال انفاق المستهلكين الذي مثل ثلثي الناتج القومي، ما يعني انه ارتفاع آني وليس هيكليا، ومن هذا المنطلق يتوقع كروغمان نفسه ان يشهد الفصل الرابع انخفاضا حادا وقد يمتد الانخفاض الى فصول عدة لاحقة، علما ان الانتخبات الرئاسية تجري في خريف العام المقبل، ما يعني ان العامل الاقتصادي سيلعب دورا كبيرا مجددا في تحديد هوية من سيدخل البيت الابيض، وتجربة بوش الأب حاضرة في هذا السياق، حيث ان الانتصار في حربه على العراق في العام 1991 تجاهله الناخب الاميركي لمصلحة الاقتصاد. فكيف سيكون الوضع اذا اجتمع التراجع الاقتصادي مع الفشل عسكري؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق