الأحد، 19 أكتوبر 2014

ثلاثون عاماً.. ثلاثة أيام: بوخارست المتحولة بين عهدين

أنيس محسن
Lasa ma, ca merge.și așa تعبير يردده الرومانيون كي تمر المسائل بسلام؛ ومعناه «دع عنك فإن الأمور يمكن لها أن تجري هكذا أيضاً»، وربما الأقرب لهذا التعبير بالعربية أبيات منسوبة للإمام علي بن أبي طالب يقول فيها:

دع الأمور تجري في أعنتها ونم نوماً قريراً هانئ البال 

الرومانيون بطبيعتهم شعب مسالم، وفي حين أنهم مثلهم مثل كل بني البشر يحبون التغيير، لكنهم يريدونه من دون عنف ومن دون مشقة كبيرة... فالتغيير آت، والسلامة هنا بالتمهل وليس بالتسرع.

قد يكون هذا حال البلد قبل 30 عاماً حين غادرته في ختام دراستي الصحافة في معهد أصبح دارساً، بعد زهو وازدهار. فكلية الصحافة في حينه كانت تابعة لأكاديمية شتيفان غيورغيو Academia Ștefan Gheorghiu التي كانت تخرج كادر الحزب الشيوعي الروماني الحاكم، وبالطبع هم كادر الدولة. والحياة كانت تسير ببطء شديد، وليس فيها سوى «الرفيق نيوكلاي تشاوشيسكو» ورفيقة عمره ونضاله، زوجته «الرفيقة إيلينا تشاوشيسكو»، وكانت نشرة أخبار التلفزيون على الشاشة الرسمية تنقسم بالتساوي بين ذكر ألقاب «الرفيق» و»الرفيقة» والإنجازات التي حققاها في ذلك اليوم... أو التي ينويان تحقيقها، فما من شيء في البلاد سواهما، حتى المكتبات لا كتب على رفوفها سوى ما «يؤلفه» الرفيق الأمين العام للحزب ورئيس الدولة وحبيب الشعب والآمر الناهي: نيكولاي تشاوشيسكو.

وفي طرقات العاصمة، حيث درست، وهي الأكثر ازدحاماً في حينه، كانت السيارات قليلة العدد وكلها متشابهة فيما عدا اللون، وهي من طراز Daçia، النسخة الرومانية لسيارة Renault 12 الفرنسية ـ وكان اللون الأصفر لسيارات التاكسي الغالبة في الشارع والأسود لمسؤولي الحزب والأزرق للشرطة، أو سيارة رباعية الدفع من طراز Aro وهي أقل تواجدا بالطبع في شوارع العاصمة ويمكن رؤيتها أكثر في الأرياف، أمّا الأكثر تواجداً فهي الحافلات الكهربائية والترومواي، المزدحمة بالركاب بحيث تتشكل على أبوابها، في ساعات الذروة، سلسلة ملتوية من الركاب كل واحد منهم يتشبث بالآخر.

كذلك كان من المألوف المرور بمشهد الصفوف على المخابز ومتاجر بيع اللحوم، حيث ينتظر الآباء والأمهات وكبار السن وقتاً طويلاً لشراء ما يعرض عليهم، أو أنهم يفشلون بذلك بسبب نفاد المعروض.

وربما المشهد الأكثر إيلاماً هو عندما كان الطلاب والطالبات الرومانيون يتسللون إلى مهاجع سكن الطلاب الأجانب لشراء بنطال جينز أو علبة سجائر مارلبورو أو كنت، وكذلك في المطاعم حيث يستقطب الطلاب والسياح الأجانب، والكثير منهم بشعون، فتيات رومانيات غاية في الجمال، لمجرد أن أولئك يمتلكون مالاً يستطيعون من خلاله تأمين سهرة جميلة في مطعم أو سجائر أجنبية، مخاطرات بالتالي بإمكانية توقيفهن من قبل الشرطة، كون القانون كان يمنع على المواطنين الاختلاط بالأجانب.

بالطبع لم يكن هذا المشهد الوحيد، وإن كان الغالب حيث يكون هناك أجانب. ففي فضاء رومانيا كان هناك متعلمون ومثقفون وفنانون وعمال يكدّون لتأمين لقمة عيشهم، وفلاحون كرماء حين يستضيفونك في بلداتهم وقراهم. وما زلت أذكر خريف 1982، بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان وانقطاع تحويل المال لنا من أهالينا، كيف شاركنا بواب الأكاديمية، حيث درست، خبزه ولحمته المقددة، وسجائره الرخيصة، التي كان يحضرها معه، وهو يردد يومياً: عندما كنت شاباً كنا ندرس في الجغرافيا أن بلادكم اسمها فلسطين.. لم يكن هناك إسرائيل أبداً.

وعندما يثق روماني بك كأجنبي، يمكن ان يبوح بما يختلجه... بعضهم يريد ان يرى واجهات المحال ممتلئة حتى ولو لم يكن باستطاعته الشراء وبعضهم يدعو لعودة الملكية مع انه لم يختبر الملكية اذ كان قد ولد في ظل الاشتراكية التشاوشيسكوية.

كان الناظم للحياة حينها مبدأ Lasa ma, ca merge și așa، وحقيبة يد كبيرة تستخدم لوضع زجاجة من المشروب الوطني țuică وقطعة شحمة الخنزير المدخنة وما تيسر من أرغفة خبر أو بضعة أوقيات من اللحومات التي يتمكن من الحصول عليها من المتاجر اذا صادف مكانا يبيعها وهو في طريقه الى منزله او عمله لكن مهلاً Lasa ba, ca nu merge așa، «دعني فالأمور لا تجري هكذا، أو فيما يمكن استعارته بالعربية من الشطر الثاني من أبيات الأمام علي.

فما بين غفلة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال

في 1 تشرين الأول 2014، وكان قد مضى على تركي رومانيا 30 عاماً، عدت إليها لثلاثة أيام بدعوة لحضور مؤتمر تنظمه المدرسة الوطنية للعلوم السياسية والإدارية Școala Națională de Studii Politice și Administrative وهي النسخة الحديثة عن أكاديمية شتيفان غيورغيو، وهي تخرج الآن أيضا كادر الدولة بعدما صارت رومانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي.

هنا يمكن ملاحظة التغيير الذي حصل: في الشكل وفي المضمون. كانت المناسبات التي تنظمها Academia Ștefan Gheorghiu قاتمة في مبنى أنيق لكن بهندسة سوفياتية، يحضرها أعضاء الحزب الشيوعي الروماني ببذلاتهم السوداء وربطات العنق، والطلاب الحزبيون المولجون بتنظيم المناسبة يرتدون أيضاً بذلات رسمية وقلمّا ترى أحداً مبتسماً، وكأن التجهم عنصر مكون للحضور. أما المناسبة فتكون مرتبطة بالحزب أو بالحكومة؛ وبالطبع المرجعية الدائمة هي الرفيق نيكولاي تشاوشيسكو!!

أولى الملاحظات عن المناسبة التي دعيت إليها أخيراً، وهي مؤتمر عن الذكرى 130 لتأسيس المصرف المركزي الروماني، كان بعنوان: Proceedings of Strategica، واستضافتها كلية الإدارة في المدرسة الوطنية للعلوم السياسية والإدارية Școala Națională de Studii Politice și Administrative أن المبنى الجديد الذي بالكاد كان قد افتتح، طرازه أوروبي حديث، وعلى مدخله علم الاتحاد الأوروبي إلى جانب العلم الروماني. وفي داخل المبنى، كان الطلاب والموظفون الذين يستقبلون الضيوف في مقتبل العمر؛ يرتدون الجينز والثياب المتناسبة مع الموضة، بعيدا عن «جديّة» البذلات الرسمية، لكن من دون مبالغة في اتباع الموضة؛ يحضرون مبتسمين ومتحدثين بالإنكليزية والفرنسية والرومانية. وداخل القاعة حيث عقدت الندوة، رئيس للجلسة وهو استاذ في الاقتصاد في جامعة بوخارست، ومنتدون بينهم مندوب عن المصرف المركزي، وهو سفير سابق لرومانيا في باريس. استاذ الاقتصاد وأحد المنتدين كالا الأسئلة المحرجة للمحاضر الرسمي، وأوسعا الحكومات المتعاقبة ملاحظات وانتقادات علمية على تقصيرها، وهو ما لم يستطع الضيف الرسمي الدفاع عنه منبرياً بنفسه في تقديم انتقادات خجوله، من موقعه كمسؤول رسمي معني بما للمصرف المركزي من مسؤوليات في التخطيط المالي.

لو حدث مثل هذا الأمر في Academia Ștefan Gheorghiu لكان رئيس الجلسة والمنتدي والمسؤول في المصرف المركزي في خبر كان!!... إذن هي حريّة الرأي التي لطالما طالب بها الرومانيون الذين كنت التقيهم قبل 30 عاماً، لكن بصوت خافت.

أما شوارع بوخارست وأبنيتها، حتى القديمة التي لا تزال قائمة منها، فهي بحال غير تلك التي اعتدتها قبل 30 سنة. مبان حديثة شاهقة مدججة بالأضواء و»أسواق تجارية» (مولات) في كل ناحية، ولوحات إعلانية، متاجر لكل الماركات العالمية، والسوبرماركت منتشرة في كل تجمع فيها منتجات من كل أنحاء العالم... وعجقة سير خانقة بعدما باتت الشوارع تضيق ربما بمئات آلاف السيارات من كل الطرازات العالمية... وفي بوخارست العتيقة، فقط احجار المباني القديمة، المحدّثة، على حالها، أما المطاعم والمحال التجارية فهي شيء آخر، بحيث استحالت تلك المباني بشكل يستحيل على من هم مثلي لم يطأوا المدينة منذ 30 عاماً أن يتعرفوا عليها. أمّا زبائن تلك المطاعم فهم شبان وشابات رومانيون لا يحتاجون إلى طالب أو سائح أجنبي ليدفع الفاتورة، فلديهم ما يكفي كي يعيشوا الحياة التي حلم بها آباؤهم وأمهاتهم.

لكن ماذا تريد رومانيا الرسمية، وكيف ستكون سياسة هذه الدولة القادمة من «ديكتاتورية اشتراكية تشاوشيسكوية» إلى رحاب اقتصاد السوق والعلاقات الدولية المفتوحة؟

ما لا شك فيه، أن البعض ينتقد بشدة هذا الوجه الاستهلاكي والرأسمالية المتوحشة التي تعانيها رومانيا، والتي تسببت في مشكلة لم تكن موجودة في العهد السابق: أي المتشردون الذين لا يملكون عملاً ولا مأوى يؤويهم صبّارة برد شتاء تتدنى فيه الحرارة الى ما بين 10 درجات تحت الصفر و30 درجة تحت الصفر، والذين يمكن ملاحظتهم في أكثر من زاوية اذا ابتعد المرء قليلاً عن الوسط التجاري، الذي يبدو أنه غير مسموح لهم الاقتراب منه. وكثيرون هم الذين ينتقدون بشدّة التخطيط الفاشل خصوصاً للشوارع والأوتوسترادات، التي تتسبب بهدر كبير للمال العام ولا تفيد حركة المرور داخل بوخارست أو بينها وبين أطراف البلاد. فمثلاً لم يكتمل عدد المشاركين في الندوة التي دعيت إليها وحضرتها في ذلك اليوم، بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى مكان انعقادها تبعا لأزمة السير الخانقة التي تزامنت مع عودة التلاميذ والطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم.

وماذا عن سياسة رومانيا الخارجية، أسأل أحد المسؤولين؟... بل ماذا عن المستقبل؟، فيجيب: في السياسة الخارجية ركزت رومانيا في المرحلة الانتقالية الأولى على تنظيم نفسها داخلياً بما يمكّنها من أن تكون عضوا في الاتحاد الأوروبي؛ وأهملت تماماً علاقاتها في دول الشرق الأوسط وما كان يعرف بالدول النامية، التي ربطتها أيام النظام السابق علاقات سياسية واقتصادية مهمة، مكنت رومانيا من أن تلعب دور الوسيط في أكثر من أزمة وتستفيد اقتصادياً من موقعها الوسطي هذا بين الشرق والغرب في الحرب الباردة؛ والآن فإن رومانيا تعود لمحاولة استعادة تلك العلاقات للاستفادة ـ عبر موقعها الأوروبي ومن ماضي علاقاتها الخارجية ـ بالعمل مجددا، في السياسة، على لعب دور الوسيط، لأن لا مشاكل لها مع أحد وهي ترتبط بعلاقات جيدة مع كل بلدان العالم.

أما داخلياً، فإن اختيار الحكّام بات رهن الشعب عبر انتخابات حرة، مرّة يفوز بها الاشتراكيون، وأخرى اليمين، ثم تجري محاسبة الفائز في دورات الانتخابات اللاحقة على ما تحقق أو لم يتحقق.

واقتصادياً، فإن رومانيا، وفق المسؤول نفسه، تتجه نحو الاستفادة من أخطاء الفترة الانتقالية التي سادتها الفوضى، وكثر فيها الفساد، للتوجه نحو انتشال الأطراف من تهميش اقتصادي تسبب في حالات فقر حقيقية لبعض سكان الأطراف، ولمحاربة الفساد عبر آليات دولية ومحلية أوجدتها الاتفاقات التي وقعتها رومانيا مع الولايات المتحدة، وكونها عضوا في الاتحاد الأوروبي، وقد استدعي بناء عليها عدد كبير من السياسيين ومنهم من شغل مناصب رفيعة، الى المحكمة في قضايا فساد مرفوعة في الولايات المتحدة او الاتحاد الاوروبي، ولا يمكن للقضاء في رومانيا سوى التعامل معها بجديّة وصرامة، كما أن القضاء الروماني يتحرك أيضا في قضايا داخلية، وهناك الكثير من النافذين المتهمين بالفساد إما موجودون داخل السجون أو أنهم يخضعون للمحاكمة.

رومانيا تسعى للتقدم، لكن ما لا شك فيه أن ذلك لن يكون سهلاً، فكثيرة هي الملفات التي ورثتها من المرحلة الانتقالية الأولى المليئة بالفوضى والفساد، وحلها يحتاج إلى مزيد من الوقت، فضلا عن تأثر رومانيا أكثر بعدما انفتحت على الخارج، في الأزمات الاقتصادية العالمية.
http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=636254 

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

"العرب رقعة الشطرنج وليسو بيادقها"*





أنيس محسن

انقسم العرب منذ 2011، أي بداية ما كان أطلق عليه "الربيع العربي"، بين مؤيد ومستنجد بالولايات المتحدة الأميركية ومرجعه الإقليمي المملكة العربية السعودية - يطلق عليه صفة "الاعتدال"؛ وبين معاد لها ومناد بمواجهتها بل دحر كل متحالف أو متقارب معها من القوى السياسية، وبعده الدولي في موسكو ومربط خيله الاقليمي في طهران.
بين نهاية تموز وبداية تشرين الأول 2013، تغير كل شيء... تجربة حكم تنظيم الاخوان المسلمين في مصر الذي استفاد من خلو "الربيع العربي" من قيادات وأحزاب وقوى منظمة وامتطى الحكم، لاقت فشلاً ذريعاً ومكنت الدولة العميقة في النظام المصري من استعادة المبادرة والانقضاض على الاخوان وزج قياداتهم في السجون وتجريم التنظيم قانونيا - مستغلاً غضب الشعب الذي انْفَضّ سريعاً عن الإخوان بسبب أفعالهم.
في سوريا، حيث بدأت الثورة "سلمية... سلمية"، وحولها النظام - بشطارة دوائر الاستخبارات الروسية والإيرانية - إلى حرب "داعش والنصرة"، فشيطنها، بتآمر قذر من الغرب... انقلب الوضع على الجميع بين النصف الأول من ايلول وبداية تشرين الأول: أوباما الذي لا يجد ثمن وقود لمحركات طائرته الرئاسية ليلتحق بقمة آسيا والمحيط الهادي، يتراجع عن ضربة وعد السوريين بها - وان كانت موضعية - ضد نظام بشار الأسد. وروسيا التي طالما أدانت الدور الأميركي ضد حليفها الأسد، طرحت مبادرة الكيميائي التي تلقفتها من وزير خارجية العم سام، جون كيري، فذهب سلاح التوازن الاستراتيجي الأسدي مع إسرائيل أدراج الرياح، وها هو يدمّر... وإيران المختلفة منذ أول أيام "الثورة الإسلامية" مع "الشيطان الأكبر" تصالحت معه (ولو جزئيا حتى الآن).. وبات من كانوا بالأمس أعداء يجلسون في مربع واحد ويتبادلون المجاملات: فبوتين مرتاح لاقتناع الولايات المتحدة بعدم توجيه ضربة للأسد وقبول مبادرة الكيميائي؛ وكيري معجب بالسرعة "الضوئية" لاستجابة الأسد لأمر التعري "الكيميائي"؛ وأوباما يهاتف حسن روحاني الفرح بالمكالمة.
لطالما كان الثوريون العرب، في زمن السوفيات، يقولون إن القيادات التقليدية العربية بل قيادات شعوب "العالم الثالث" التقليدية ليست سوى بيادق في رقعة شطرنج الصراع العالمي. اليوم بات المشهد أكثر وضوحاً: العرب شعوبا وقيادات "ثورية" و"تقليدية" ليسو سوى رقعة الشطرنج ولم يرتقوا حتى إلى أن يكونوا بيادقها!!

* العنوان ومضمونه وخلاصة المقالة، مستقاة من مقالة كتبها الأستاذ الياس خوري في "القدس العربي" في 16 أيلول بعنوان: "الشطرنج الدموي في سوريا".

السبت، 31 أغسطس 2013

ما نريده من أوباما لأنفسنا وما يريده أوباما لنفسه!!

أنيس محسن

يسري إحباط عارم من تصرفات الرئيس الأميركي باراك أوباما ـــ الشرق أوسطية ـــ لدى مثقفين وإعلاميين ومواطنين عرب مناهضون للنظام الأسدي في سوريا ولـ"الممانعين" العرب وغير العرب، واستطرادا لسياسات إيران الصلفة إزاء الوضع العربي، وتدخلها السافر في التفاصيل الوطنية بل الحزبية الضيقة في الدول العربية، إلى درجة أن بعض "المقاومين" المستفيدين من دعمها تبرموا مرّة من أن طهران عندما تقدم المال تختار من تعطيه له من داخل تلك الأحزاب، وأنها تفضل دائما تمويل الأجهزة العسكرية لتلك الأحزاب مباشرة وليس عبر القيادة السياسية، ومن خارج دوائر وإدارات المحاسبة المالية لتلك الأحزاب والأطراف.
مرد الإحباط لدى هذه الفئة ـــ المحبطة أساساً من كل الأنظمة التي مرّت على الحكم في المنطقة، سواء بلون "ماركسي" أو "قومجي" أو "إسلاموي" ـــ هو "التفكير الرغبي" wishful thinking بتغيير سهل وسريع يقوده "فارس على حصان أبيض"، تماما كما ترغب فتاة حالمة بفتى أحلامها. ومَنْ سوى قائد أقوى دولة ـــ باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة الأميركية هو "فارس الحصان الأبيض" الذي نناشده لتخليصنا من أنظمة قمعية بمضمون واحد وقشور تختلف ألوانها فقط؟
وراء التفكير الرغبي هذا سببان جوهرهما ببيئة المنطقة وثقافتها: الأول، كوننا أبناء منطقة حارّة تجعلنا ميالين إلى الحركة السريعة والتفكير السريع الى حد التسرع وبالتالي عدم القدرة على الصبر، وبالتالي استجداء التغيير عندنا حتى من الآخر البعيد ما دام التغيير يحتاج وقتاً؛ الثاني ثقافي، متأت من ثقافة الإتكال (على الله أو الحاكم أو الوالد أو الأخ الأكبر... الخ) وبالتالي فإن التغيير لدينا مرهون / ثقافياً / باتكالنا على غير أنفسنا بالتغيير.
في سياق مساعي التغيير، لطالما اتكل مثقفو العرب على الخارج: في الأفكار أو الوسائل. فلجأوا إلى استجلاب الفكر "القومي الوطني" الأوروبي و"الاشتراكي العملي" من المنبع ذاته ممزوجاً بالإرث الإسلامي المتأصل منذ أن نشأت الدولة الإسلامية ونجحت في التوسع وصولاً إلى بناء امبراطوريات، وغيرت بالتالي طبيعة تفكير شعوب المنطقة وثقافتها. فكان الإرث الثقافي الإسلامي يتحول "قوميا" عندما يفشل التغيير عبر "الأسلمة" ويصبح "اشتراكياً علمياً" حين تفشل "القومية" ويعود لـ"الإسلام هو الحل" عندما يفشل "القومي الوطني" و"الاشتراكي العلمي"، في دائرة تكاد تكون أزلية وإلى الأبد؛ أما في وسائل التغيير فكان اللجوء إلى الآخر شرقاً أو غرباً والتحالف معه للتغلب على الشقيق أو ابن العم أو الجار، منذ أن لجأ امرؤ القيس إلى قيصر ليطالب "ملكاً" خسره بسبب مجونه إلى درجة أنه وجد في ذلك عذراً مقبولاً فقال "بكى صَاحِبي لمّا رأى الدَّرْبَ دُونه .. وأيقنَ أنّا لاحقانِ بقصيرا ـــ فَقُلتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنّمَا .. نحاوِلُ مُلْكاً أوْ نُموتَ فَنُعْذَرَا". وليس انتهاء بتولي "شيعة العراق" الحكم انتزاعا من "صدام حسين السني" على صهوة الدبابة الأميركية ولا بتحالف الإخوان المسلمين في مصر مع أميركا والغرب لانتزاع ثمرة ثورة التحقوا بها وأرادوا منها السلطة فقط.
في الغرب، الذي يستغيث العرب به، دامت عملية التغيير قروناً وتدرج المجتمع هناك في تطوره وأطواره من "الهمجية" إلى "الإقطاعية" فـ"البرجوازية" ثم "الإمبريالية" بوجهيها "الرأسمالي" و"الإشتراكي"، وصولاً إلى زمن التكنولوجيا الفائقة التطور وما تستولده من تغيير في المفاهيم الثقافية للمجتمع بكل مستوياته. لقد تلوّن التغيير في الغرب بأنهر من الدم وأكوام من الرؤوس المقطوعة، وتلال من رماد "المشعوذين" المقتولين حرقاً. قال ديبلوماسي غربي في جلسة خاصة، إن البيئة الباردة في الغرب كئيبة لكن إنسان تلك البيئة إذ يتحرك ببطء فإنه لا يستعجل الأمور كثيراً؛ وقال دبلوماسي آخر إن مؤيدي ما يطلق عليه "الربيع العربي" يخطئون عندما يتمنون أن تثمر قبل أوانها أو أن يأكلوا ثمارها قبل أن تنضج؛ ففي الدنمارك احتاجت المرأة 60 سنة لمجرد أن يُسمح لها بالمشاركة في التصويت وليس الترشح للانتخابات؛ وفي فرنسا احتاج الأمر أكثر من 60 سنة بعد كومونة باريس ليصبح البلد جمهورية؛ وفي الولايات المتحدة كانت مجزرة ضد السكان الأصليين، وحرب استقلال ضد بريطانيا، وحروبا أهلية طاحنة قبل أن تصبح ما هي عليه الآن.
وفقا للسببين أعلاه، رغب مؤيدو "الربيع العربي" تغييراً فورياً بعد سقوط مبارك وبن علي، وارتعبوا من "ممانعة" القذافي وعلي عبدالله صالح، وسادهم ضياعاً وإحباطاً ما بعده إحباط بسبب "صمود" بشار الأسد في وجه إرادة التغيير. مريدو التغيير الفوري استنجدوا بالغرب للخروج من الورطة؛ ومريدو الإبقاء على ما هو قائم، استنجوا بالشرق للغاية نفسها.
في سوريا، حيث الواقع الأكثر بشاعة، بات "الربيع العربي" منطقة صراع دولي / إقليمي. طرف يشد أزره بروسيا وإيران وتوابعهما؛ وجزء يندب حظه بسبب تكؤ الغرب عن النجدة. الطرفان يعلمان أن المُستَنْجد بهم لهم غاياتهم ومصالحهم في تكثيف الدعم أو تقنينه، لكنها يواصلان الاستجداء.
"الأسديون" محظوظون كون منجديهم يكثفون الدعم لهم ـــ والخاسر هنا هم السوريون الذين يتساقطون يومياً على مذبح مصالح روسيا وإيران. مناهضو "الأسدية" غير محظوظين لأن من استنجدوا بهم يقننون الدعم، بل يمنعونه ـــ والخاسر هنا هم السوريون الذين يتساقطون يومياً على مذبح مصالح أوروبا وأميركا.
في النقاشات الدائرة في الشارع، لدى اللّا"أسديين"، كيل للشتائم لأوباما "الضعيف" و"العاجز". هؤلاء يريدون أن يكون "باراك حسين أوباما" مثل الصديق "جورج بوش الإبن"، ويسرع إلى توجيه ضربة حاسمة مرّة وإلى الأبد ضد بشار الأسد ونظامه، كما وجه بوش ضربة حاسمة إلى طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، وبالتالي يعيش البلد "في ثبات ونبات ويخلف صبيان وبنات". أميركا واحدة لكن أوباما ليس بوش. وعد أوباما الانتخابي كان الانسحاب من العراق وافغانستان والتوقف عن تورط مباشر كلف الولايات المتحدة خسائر بتريلويونات الدولارات ولم ينتج مقابلاً يستأهل تلك التكلفة العالية. وقد أوفى أوباما بوعده في العراق ويوفي بوعده في أفغانستان، وأولا وأخيراً يخرج من المنطلق "التكساسي" لبوش، ويضع قراره الأخير بعد أن يشبع المسألة درسا في مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية.
قال باراك أوباما بعد أن ترأس اجتماعاً لفريق الأمن القومي في إدارته في 30 آب / أغسطس، إن مجزرة السلاح الكيميائي التي ارتكبها نظام الأسد في غوطتي دمشق وخلفت "1429 قتيلاً بينهم 426 طفلاً"، أمر "يهدد مصالح أمننا القومي"، وأن الأسلحة الكيميائية تمثل خطراً "على حلفائنا في المنطقة مثل إسرائيل وتركيا والأردن".
إذن، هي مصالح الولايات المتحدة، أولاً وأخيراً، كان الأمر كذلك مع جورج دبليو بوش وهو ذاته مع باراك حسين أوباما، وبالتالي من مصلحة أميركا وأمنها القومي، الدفاع عن حلفائها (إسرائيل والأردن وتركيا)، مثلما كان من مصلحة الولايات المتحدة إزالة حكم طالبان في أفغانستان حتو ولو كان البديل حكم القبائل من خلال "اللويا جيرغا"المتخلفة، وحكم صدام حسين في العراق وإن كان البديل "حكم الطائفة الشيعية الأكثرية متحالفة مع إيران".
الفارق بين إدارتين أميركيتين، هو الأسلوب. إذ فيما كان أسلوب بوش "تكساسياً" فإن منطق أوباما مؤسساتياً: إن مراجعة لما حققه أسلوب أوباما يعطي صورة مغايرة تماماً للسائد بين محبي واشنطن أو مريدي تدخلها في المنطقة؛ فأوباما ليس ضعيفاً ولا عاجزاً. لقد تمكن في فترة حكمه الأولى من تصفية أسامة بن لادن ومعظم قادة الصف الأول في تنظيم "القاعدة" وشتتهم وهو يلاحقهم في كل مكان مستخدما الطائرات من دون طيار، بتكلفة مالية وبشرية أقل كثيراً على الولايات المتحدة وأكثر كثيراً من حيث الإنجازات. وبالعودة إلى مبدأ الاحتواء المزدوج "الـ كلنتوني" تمكن من حشر إيران في زاوية عوز اقتصادي يكاد يطيح بها ما لم تتدارك الأمر، ويبدو ان طهران بدأت تداركه عبر السماح لحسن روحاني بتبوء منصب الرئاسة والبوح صراحة بأن إدارته تريد مصالحة مع الخارج وخصوصاً مع أميركا.
إن منطق الأمور يقود إلى أن نفكّر حين نتحدث عمّا نريد من أوباما لأنفسنا، أن نسأل عمّا يريده أوباما لنفسه. والقصد هنا التوقف عن التفكير الرغبي، وبالتالي التأني وأخذ الأمور نحو منطق المصالح، عبر مزاوجة بين مصالح الآخر الذي نريده أن يساعدنا وبين مصالحنا نحن.


الخميس، 22 أغسطس 2013

عن الأسباب المحتملة لتسليط وسائل الإعلام اللبنانية الضوء على تورط بعض الأفراد الفلسطينيين في ما يجري



أنيس محسن

في الصحف والمواقع الاخبارية اللبنانية هذه الأيام الكثير من التقارير عن التورط الفلسطيني بالاحداث الأمنية والتفجيرات الإرهابية التي حصلت في الضاحية الجنوبية.
ما لفتني تقرير لجريدة "الاخبار" في 22 تموز 2013، يقول إن تاجر السلاح الذي باع الصواريخ التي اطلقت على الضاحية أبلغ حزب الله أنه باع الصواريخ لجهة ووصلت الى الفلسطينيين المتهمين بإطلاقها على الضاحية. وتضيف "الاخبار"، أن هذا التاجر الذي يسكن في مخيم برج البراجنة، معروف أنه باع في الماضي صواريخ أطلقت من جنوب لبنان على الاراضي الفلسطينية المحتلة.
يستوجب الأمر، بناء على تقرير "الأخبار" الإجابة على الأسئلة التالية:
1 - ما هي علاقة تاجر السلاح هذا بحزب الله، وبالتالي ما هي علاقة حزب الله بالجهات التي كانت تطلق الصواريخ باتجاه اسرائيل من جنوب لبنان، ومن هي تلك الجهات، التي تشير التوقعات، بل المعلومات، أنها موالية للنظام السوري؟
2 - لحزب الله اعين واذرع في مخيم برج البراجنة الواقع ضمن مربعه الأمني، وهو بالتأكيد يعرف تاجر السلاح هذا، الذي يتحرك فيما يبدو بكل حرية، ولم تعتقله السلطات الامنية الرسمية رغم مخالفته القوانين بالمتاجرة بالأسلحة، فكيف غاب عن الحزب أن ثمة من اشترى صواريخ منه... اذ وفق جريدة "الاخبار" كان التاجر يعتقد أن المشترين يريدون اطلاقها على اسرائيل. فهل هؤلاء من الفئة التي كانت تشتري سابقا الصواريخ وتطلقها على اسرائيل. بشكل أوضح، هل هم من الموالين للنظام السوري؟ واستطرادا هل من علاقة للنظام السوري بتدبير اطلاق الصواريخ على الضاحية، من خلال عملائه أو عبر توريط بعض الأغبياء في عمل أمني ظنا من هؤلاء الأغبياء أنهم يناصرون بعملهم هذا المعارضة السورية؟
3 - منذ سنة 2005 تجهد اطراف الصراع في لبنان والنظام السوري لتوريط الفلسطينيين في معمعمة الصراعات على النفوذ المحلي والإقليمي عبر إدخال المخيمات في منظومة "الفوضى الخلاّقة - الممانعتية"، سواء من خلال توريط مخيم نهر البارد بـ"فتح الإسلام" أو محاولة زج عين الحلوة بتجربة أحمد الأسير الفاشلة في صيدا، أو عبر اتهام المخيمات بأنها غرف عمليات لقوى اسلامية متطرفة متورطة في الصراع في سوريا، وقد فشلت كل تلك المحاولات بسبب إصرار كل الفلسطينيين على النأي بأنفسهم عمّا يجري. فهل توريط أو تورط بعض الأغبياء من الفلسطينيين، حلقة جديدة من حلقات زج الفلسطينيين في صراعات يرفضون التطوع للمشاركة فيها؟
4 - دائما في لبنان تحال الصراعات الداخلية وأسباب التفتت الطائفي والمذهبي إلى مؤامرات خارجية، فهل وصلت الأزمة في لبنان إلى مستوى بات يتوجب معه توجيه التهمة "الأغراب" مجدداً، وهم الفلسطينيون، لكن هذه المرّة ليس من قبل "المارونية السياسية" بل من قبل "الشيعية السياسية"؟.
إن ما يلوح في افق الصحافة اللبنانية من تكبير للدور الفلسطيني في الاحداث الجارية، سواء أكان بعض الأفراد الفلسطينيين متورطون عبر عمل استخباراتي، أو عبر غباء فردي [كون الفصائل كلها مجمعة على النأي بالنفس الفلسطينية عمّا يجري، وهي على تنسيق تام خصوصا مع مخابرات الجيش اللبناني]، يضع على عاتق الفصائل الفلسطينية جميعها، وعلى منظمات المجتمع المدني الفلسطينية التحرك العاجل وعلى كل الصعد لتوضيح الموقف سياسيا واعلاميا، لأن الحالة الشعبية "الشيعية" في الضاحية الجنوبية على وجه الخصوص باتت بسبب التركيز على الدور الفلسطيني المزعوم في الاحداث، تشهر مشاعر معادية للفلسطينيين. ولتفكر الفصائل الفلسطينية جديا بالطلب من الحكومة اللبنانية الدخول رسميا الى المخيمات وفتح مخافر لقوى الأمن بداخلها وتسليم كل السلاح الفردي وغير الفردي، والاعلان عن التخلي الكامل عن أي سلاح: أسود أم أبيض، لأن وجوده أصبح غير مبرر سواء لمواجهة إسرائيل التي لم تعد على خط مواجهة مباشر مع المخيمات، أو للحماية الذاتية لأن وجوده يمكن ان يستخدم لاحقا لتبرير خلق مشاعر المعاداة للفلسطينيين واتهامهم بخرق الأمن اللبناني، والتضحية بهم على مذبح الحفاظ على الكيان اللبناني من التفتت المذهبي.
إن حماية المخيمات انما يكون عبر الانفتاح على المحيط والتخلي الطوعي عن السلاح بشكل كامل والطلب الى الدولة اللبنانية تولي مسؤوليتها الأمنية والسيادية غير منقوصة على المخيمات، أولا وأخيرا لمصلحة الفلسطينيين، الذين يجب ان يكتفوا في لبنان بالعمل السياسي والاجتماعي والثقافي، وان يتحركوا بكل سلمية وبعناد لنيل حقوقهم المدنية والسياسية والثقافية كفئة هي أقدم فئات اللاجئين في العالم، وبما يحفظ لهم انتماءهم وهويتهم الفلسطينيين.

الاثنين، 15 يوليو 2013

بين "فتح" و"حماس" ما لم تصنعه مصر *



====== أنيس محسن

في مدى عام واحد انقلبت الأدوار في مصر، وانعكست سريعاً على الوضع الفلسطيني، خصوصاً بين حركتي "فتح" و"حماس"، إذ فيما كانت "حماس" بين نهاية حزيران 2012 ونهاية حزيران 2013 تستقوي بحكم "الإخوان المسلمين" في مصر وتتكئ على حكمهم في تونس، وتسهم في شد أزر "الإسلاميين" في الحرب الدائرة في سوريا، وتستعلي على "فتح" وغيرها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني، أصبحت بعد نهاية حزيران 2013 موضع مساءلة في الشارع المصري وكذلك من قبل حركة "فتح".
وحقيقة، لا يبدو استقواء "حماس" بنجاحات "الإخوان" أمراً خارجاً عن المنطق، ففي المادة 2 من ميثاق الحركة أن "حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين. وحركة الإخوان المسلمين تنظيم عالمي، وهي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وتمتاز بالفهم العميق، والتصور الدقيق والشمولية التامة لكل المفاهيم الإسلامية في شتى مجالات الحياة، في التصور والاعتقاد، في السياسة والاقتصاد، في التربية والاجتماع، في القضاء والحكم، في الدعوة والتعليم، في الفن والإعلام، في الغيب والشهادة وفي باقي مجالات الحياة".[1]
كما أن ظروف تولي "حماس" سدة السلطة (المفرغة من مضمونها) فلسطينياً، تشبه كثيراً الظروف التي تولى فيها "الإخوان" الحكم في مصر وتونس، وقد كانت "حماس" سبّاقة زمنياً في الوصول إلى الحكم.
كانت "السلطة" الفلسطينية قد بلغت حداً كبيراً من الترهل والفساد، سواء من قبل الحاكم "الرسمي" (فتح)، أو من قبل المعارضة "الرسمية" (يسار منظمة التحرير)، يعيد كثيرون أسبابه الأولى إلى تحول منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، الموالية والمعارضة، لما يشبه دولة في قلب دولة خلال السيطرة الفلسطينية على جزء كبير من لبنان بين 1975 و1982، مباشرة أو بالواسطة عبر حلفاء لبنانيين، وتدفق الأموال الطائلة على المنظمة ككيان سياسي رسمي ممثل للفلسطينيين، أو على الفصائل الموالية و/أو المدعومة من قبل دول مؤثرة (خصوصا العراق وسوريا وليبيا)، وبناء مؤسسات عسكرية وأمنية وسياسية وإعلامية وثقافية ومالية فوق الأراضي اللبنانية، بحيث باتت المنظمة ومختلف الفصائل أرباب عمل يوظفون آلاف من اللبنانيين والفلسطينيين ومن جنسيات عربية وغير عربية، وما يرافق مثل تلك الهياكل السلطوية من فساد مالي واداري وثقافي متعدد الأوجه. أما الأسباب اللاحقة والقاتلة، فتمثلت بانتقال السلطة الفلسطينية من دولة داخل دولة في لبنان، إلى وهم دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة اعتبارا من سنة 1994 بعد توقيع اتفاق اوسلو في 1993، وبناء هياكل دولة في الضفة والقطاع من دون قاعدة اقتصادية صلبة، إنما عبر بنية مالية هشة تمثلت بتدفق أموال من الولايات المتحدة والدول الغربية ودول عربية، وتوظيف آلاف الفلسطينيين في مؤسسات السلطة الفلسطينية الأمنية وغير الأمنية، ما زاد من اعتماد الفلسطينيين على ما يتلقونه من مرتبات ترتبط أساسا بما يقدم من هبات، إلى درجة أن موازنات السلطة الفلسطينية كانت تتم مراجعتها وتدقيقها من قبل الدول والهيئات والمنظمات المانحة. وبالتالي توجيه ضربة قاتلة إلى ما تبقى من القطاعات الاقتصادية المنتجة، التي أضعفتها إسرائيل بعد احتلالها الضفة والقطاع في 1967 إلى أقصى الحدود. وقد كان الفساد المالي والإداري السمة الناظمة لعمل مؤسسات السلطة الفلسطينية. وتحولت حركة "فتح" من حركة تحرر قائدة للكيان السياسي ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، الى حزب حاكم لسلطة أشبه بحكم إداري، وما يعنيه ذلك من فساد وإفساد، لم تُستثن منه فصائل يسار منظمة التحرير، التي مثلت معارضة رسمية تحيا على هامش انتقادها الدائم للسلطة واعتمادها على ما تقدمه تلك السلطة من أموال.
تمكنت "حماس" من الوصول الى السلطة في انتخابات سنة 2006، وسط هذه المناخات، مضافاً إليها الهجمة الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية اعتباراً من سنة 2000 عندما قام إرييل شارون بزيارة استفزازية للمسجد الأقصى وتسبب باندلاع الانتفاضة الثانية، وخصوصاً مع وصوله إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في شباط 2001، والإنقلاب على اتفاق أوسلو الذي تأسس عقب اغتيال أحد رواده الإسرائيليين، اسحق رابين، في تشرين الثاني 1995، وتدمير السلطة الفلسطينية خلال ما يعرف بعملية "السور الواقي" في 2002. واكتساح "حماس" بالتالي مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني وتشكيلها أول حكومة للإخوان المسلمين، مستفيدة من ترهل حركة "فتح" وإفساد السلطة لها، والتنافس بين قياداتها وكوادرها على المناصب وعدم قدرتها على المشاركة في قوائم موحدة خلال الانتخابات تلك، وعدم تمكن فصائل المنظمة، اليسارية، من تكوين البديل عن "فتح"، فيما كانت "حماس" الجهة الأكثر تنظيماً وقدرة على وراثة "فتح".
ومثلما تُتهم "حماس" بأنها أسهمت بتقويض السلطة الفلسطينية بين 1994 و2006 عبر سلسلة من العمليات الانتحارية التي ضربت العمق المدني لإسرائيل، وشكلت منطلقاً لليمين الإسرائييلي للانقلاب على اتفاق اوسلو وتنظيم عملية "السور الواقي" التي دمرت القدرة الأمنية للسلطة الفلسطينية، فإنها تتهم أيضاً بتقويضها المرجعية السياسية للسلطة الفلسطينية برفض حكومتها الاعتراف بإسرائيل، ما جعل الدول الضامنة لتلك المرجعية تمارس ضغوطاً شديدة على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عبر خفض المساعدات المالية إلى الحد الأدنى وتفرض حظراً على التعامل مع حكومة "حماس" التي شكلها إسماعيل هنية، كونها ترفض العملية السياسية المنبثقة عن اتفاق أوسلو وترفض الاعتراف بإسرائيل.
واجهت حركة "حماس" الضغوط المتعددة عليها بتحويل الصراع من فلسطيني ـ إسرائيلي، إلى فلسطيني ـ فلسطيني، فخاضت حرباً طاحنة مع "فتح" وأجهزة السلطة الفلسطينية، في حزيران 2007، انتهت بسيطرتها الكاملة على قطاع غزة وطرد "فتح" منه. بفعل هذه التطورات، باتت السلطة الفلسطينية اعتباراً من 2007 سلطتين، فعمدت إسرائيل إلى استغلال الوضع بمزيد من الضغط على حكومة رام الله والرئيس محمود عباس سياسياً ومالياً، ونظمت عمليتين عسكريتين ضد قطاع غزة، الذي فرضت عليه حصاراً محكماً، وذلك في سنتي 2008 و2012.
خلال الأزمة في غزة، تقلّبت سلطتان في مصر. سلطة مبارك ثم سلطة "الإخوان". في الحرب الأولى توسط نظام مبارك لهدنة بين إسرائيل و"حماس" وكانت سلطة رام الله جزءاً من العملية وإن لم تكن أساسية، وفي الحرب الثانية توسط نظام "الإخوان" بين إسرائيل و"حماس" واستبعدت رام الله من العملية، وللمرة الأولى سجل اعتراف من قبل "حماس" بإسرائيل وأن مداورة، وأقرت "حماس" بمسؤوليتها عن منع أي "اعتداء" على إسرائيل.
وكان نظام مبارك أشرف منذ الانقسام الفلسطيني بين "حماس" و"فتح" على سلسلة من المحاولات الهادفة إلى رأب الصدع، كما تدخلت المملكة العربية السعودية وتوصلت إلى ما عرف باتفاق مكة الذي يشار بالبنان الى أن "حماس" هي من خرقته، عندما كانت جزءاً من جبهة "الممانعة" وصديقة لنظامي الأسد في سوريا والولي الفقيه في إيران، وبدعم من "جبهة الممانعة"، وهو ما يفسر الجفاء بين المملكة و"حماس".
اعتُبرت "حماس" مكونا أساسيا من مكونات جبهة "الممانعة" حتى سقوط نظام مبارك في مطلع 2011 واندلاع الثورة ضد بشار الأسد في سوريا، حين اتخذت موقفاً مؤيداً ضمنياً للثورة ومحايداً إعلامياً قبل أن تعلن مساندتها للثورة ضد الأسد. بل وتنخرط ميدانياً إلى جانب الثوار وإن بشكل غير معلن، عندما نجح "إخوان مصر" في إيصال محمد مرسي إلى سدة الرئاسة المصرية وفازوا مع حلفائهم الإسلاميين بغالبية مقاعد البرلمان، مستفيدين من تشتت القوى الليبرالية والعلمانية والشبابية.
وفيما كانت عقدت اتفاقات عدّة بين "فتح" و"حماس" لرأب الصدع، بوساطة قطرية هذه المرة، فإن وصول الإخوان إلى السلطة في مصر وقبلها في تونس، وتكبير دور القوى الإسلامية في الثورة السورية عبر تسليحها على حساب الضباط العلمانيين في "الجيش الحر"، شكل حافزاً لـ"حماس" مجدداً للتملص من الاتفاقات مستقوية هذه المرة بفقاعة نجاحات "الإخوان"، وخصوصاً في مصر.
ومع دخول مصر موجة ثانية من التغيير في غضون سنتين، وخروج ملايين المصريين في 30 حزيران 2013 مطالبين برحيل مرسي، وتدخل الجيش المصري للمرة الثانية وعزل مرسي، انقلبت الأدوار، وباشرت "فتح" بإصدار البيان تلو البيان موجهة انتقادات حادة لـ"حماس" واتهامات لها بتقويض المصالحة، وبإيذاء الفلسطينيين عبر التدخل في مصر وفي سوريا.
إن ما يمكن استنتاجه من قراءة لمسيرة العلاقة بين "فتح" و"حماس" تقود إلى خلاصة بأنه على الرغم من محورية الدور المصري، إلا أن تلك العلاقة غير السويّة، ليست مسؤولية السلطة المصرية، بغض النظر عمّن يستقر في قصر الرئاسة في القاهرة، بل هي تعود إلى اقتناع "جماعة الإخوان المسلمين" أن "فتح" خرجت، عندما تأسست في نهاية خمسينيات القرن الماضي كتنظيم سري قبل اشهار انطلاقتها العلنية في 1965، من رحم "الإخوان" ورمت عنها عباءتها لتلبس عباءة علمانية، في دور يشبه كثيراً ما حدث بين الجماعة والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. فناصب "الإخوان" في غزة "فتح" العداء، كما ناصبوا العداء لكل القوى العلمانية، وأمثلة الصدام كثيرة وتسبق مرحلة التسعينيات ومطلع القرن 21، إلى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. وعندما تحولت "الجماعة" إلى حركة مقاومة باسم "حماس" لم تكن على ود كامل مع باقي الفصائل، وإن ركزت جهودها بداية على محاربة إسرائيل، ولكن عندما قوي عضدها نفذت استدارة كاملة وحسمت بالقوة سلطتها واستقلت بقطاع غزة، إمارة إسلامية غير معلنة.[2]


 
* نشرت المقالة في جريدة المستقبل - الثلاثاء 16 تموز 2013 - العدد 4748 - شؤون عربية و دولية - صفحة 15

[1]   راجع الموقع  الإلكتروني "وكيبيديا الاخوان المسلمون" http://www.ikhwanwiki.com على الرابط:

[2]  للاطلاع على العلاقة الملتبسة بين "فتح" و"حماس" راجع: سعود المولى، "فلسطين بين الإخوان وفتح"، مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 93، شتاء 2013، ص 138 – 171، وللمزيد عن ظروف تأسيس "حماس" راجع أيضا: سعود المولى، "المقاومة الإسلامية في فلسطين: التباسات البدايات، واقعية المسارات"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 95، صيف 2013، ص 56 – 74.