الأحد، 20 يناير 2013

لمستقبل - السبت 19 كانون الثاني 2013 - العدد 4579 - شؤون عربية و دولية - صفحة 15


"نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود" لعارف العارف
تدوين دقيق ليوميات حيّة وحفر مباشر في الذاكرة






أنيسمحسن
أعادت "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" أخيرا طباعة كتاب عارف العارف "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947 1949"، بعد 56 عاماً من صدوره في العام 1956 عن "المطبعة العصرية في صيدا. 
وليس الصدور الجديد هو الحدث، إنما إعادة إحياء هذا المرجع القيّم عن مرحلة من أهم مراحل التاريخ العربي الحديث، المتمثل بنكبة فلسطين، من بوابة القدس، التي تتعرض اليوم لأقصى هجمة استيطانية شرسة تسعى الى محو كل أثر عربي فيها، إسلامياً كان أم مسيحياً، وتحاول إسرائيل عبر ذلك إعادة كتابة التاريخ وفق مصلحتها كمنتصر في الحرب التي لم تضع اوزارها في العام 1948، رغم سقوط معظم أرض فلسطين بيد الحركة الصهيونية، ولا بعد هزيمة حزيران 1967، التي احتلت اسرائيل فيها ما تبقى من فلسطين.
تكمن أهمية كتاب العارف، من أنه "المرجع الأوثق والأفضل بالعربية لنكبتنا سنة 1948، على الرغم من مر السنين، وعلى الرغم مما يشوبه من فجوات وهفوات ونقائص والكم الضخم الذي كتب في هذا الشأن منذئذ"، كما يكتب المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي في مقدمة الطبعة الجديدة لـ"النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947 1949".
ولأن "أحسن التواريخ وأصدقها ما يكتبه المؤرخون بعد مضي ما لا يقل عن ربع قرن من الزمن" كما يقول العارف في مقدمة كتابه حين صدور الجزء السابع والأخير من الطبعة القديمة في العام 1961 والمؤرخة في 15/ 1 من العام نفسه. ولأن ما ينقل يجب أن ينقل عن مصادر موثوقة، يضيف العارف "آليت على نفسي ألا أروي إلاّ ما رأته عيني، وما رواه العدل الثقاة"، خلال عقدين وأكثر من الزمن، "منهم رؤساء بلديات ومجالس محلية قروية وأعيان وتجار ومخاتير وقضاة ومحامون وأطباء ومعلمون ومناضلون وقرويون عاديون"، ( المقدمة صفحة lix). 
ويحرص عارف العارف على أن يدعم بـ"الوقائع والأسماء والأماكن والأرقام"، ويدون مذكراته "في يوميات متتابعة ما انقطعت عنها يوماً واحداً خلال الأعوام الأربعين المنصرمة"، وفق العارف الذي راح يسجل في يومياته، منذ صدور توصية تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 181 في تشرين الثاني (نوفمبر) 1974، واندلاع القتال بين الفلسطينيين والمنظمات الصهيونية، "ما يحدث من أحداث، غير متملق أحداً من الناس: ملكاً كان أو زعيماً، حاكماً أو محكوماً، غنياً أو فقيراً. لا، ولا شايعت فئة من الناس، أو هاجمت أخرى عن قصد. ولقد اعتصمت بالنزاهة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. فذكرت ما حدث كما حدث. ودونت ما كان، كما كان؛ لا كما أردت أنا، أو أراد قومي العرب أن يكون".
آثر عارف العارف أن ينهل المعلومات من مصدرها، ليضيفها إلى ما رأى بأم عينه، ولذلك زار بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة في عامي 1953 و1954. وقد قابل في بيروت وزير الدفاع اللبناني آنذاك الأمير مجيد أرسلان. وفي دمشق؛ رئيس هيئة أركان الجيش السوري اللواء عبدالله عطفة؛ والعقيد عبد الوهاب الحكيم الذي قاد الرتل السوري المدرع في الهجوم الفاشل على مستعمرة داغنيا جنوب بحيرة طبريا، ووزير الدفاع السوري السابق أحمد الشرباتي. وفي بغداد قابل؛ وزير الدفاع السابق صادق البصام؛ ورئيس اللجنة العسكرية التي أشرفت على جيش الإنقاذ اللواء إسماعيل صفوت باشا؛ وقائد الجيش العراقي عند بدء الحرب نور الدين محمود؛ ورئيس أركانه صالح صائب الجبوري؛ والزعيم محمد طاهر الزبيدي وزميله العقيد الركن نجيب الربيعي اللذين قادا أول هجوم على مستعمرة غيشر؛ وغيرهم من الضباط العراقيين الأدنى رتبة. وفي القاهرة قابل آخر قائد للجيش المصري على جبهة القتال اللواء أحمد فؤاد صادق.
وساعد على دقة ما نقله العارف في كتابه، كما يقول الخالدي في مقدمة الطبعة الأخيرة، أنه بقي "في موقعه الإداري في رام الله طوال الأشهر الأخيرة من الانتداب البريطاني، وثباته في هذا الموقع حتى انتهائه، ودخول "الجيش العربي" البلد وتثبيته في منصبه هذا من جانب حكومة شرق الأردن" ما أتاح له "إقامة شبكة واسعة من العلاقات مع الطرف البريطاني (المدني والعسكري)، ومع قادة المناضلين الفلسطينيين في "الجهاد المقدس" في آن واحد ثم مع قادة "الجيش العربي" البريطانيين والعرب، فضلا عن علاقته بالملك عبدالله".
وبينما تحتل القدس حيزاً وفيراً في هذا الكتاب، فإنه يتناول أيضاً أخبار سقوط مدن وقرى عديدة مثل "صفد أو عكا أو يافا أو المجدل أو بئر السبع أو هذه القرية أو تلك"، و"يعتبر من أهم المراجع عن مصير هذه الأماكن لما يتضمنه من معلومات وحقائق غير متوفرة إلاّ في كتابه"، كما يقول الخالدي.
إن الأهمية العلمية لكتاب "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947 1949"، تأتي من هذا التنوع الكبير في مصادر المعلومات. فقد قابل عدداّ هائلاّ من المسؤولين والقادة والإداريين والأشخاص العاديين، ودقق بكل تفصيل، وراجع كل وثيقة أو معلومة، وكان محايدا في نقل ما رأى وما سمع على الرغم من أنه واحد من هذا الشعب الذي ابتلي بنكبة العام 1948، وهو أمر لم يفعله قبله أي باحث.
أما الأهمية الوطنية للكتاب فتتجاوز مجرد الحديث عن تاريخ مضى، إلى تخليده "دور مواطنين ومناضلين عاديين من سكان المدن والريف، وحرصه الدؤوب على التعرف إلى ذوي الأسماء غير الرنّانة" على ما يقول الخالدي الذي يضيف أن العارف "يعطيك أسماء أعضاء "فرقة التدمير" الفلسطينية الشباب الذين أبلوا بلاء حسناً في معارك القدس". ويرى الخالدي أن حرص العارف "على الاعتراف بأدوار المواطنين العاديين وتضحياتهم، من فلسطينيين وعرب مدنيين وعسكريين يتجلى أكثر ما يتجلى في الجهود الجبارة التي بذلها صاحبنا (العارف) في تثبيت أسماء من استشهد منهم، وذكر مواقع استشهادهم وتواريخه وبلد الشهيد وما أمكن أن يعرف عنه". وفي هذا السياق "قسم العارف الشهداء الذين استقصى أسماءهم قسمين: أولهما شهداء الجيوش النظامية، وثانيهما الشهداء المجاهدون الذين ينتمون إلى فرق "الجهاد المقدس" الفلسطينية، وسائر المناضلين من أبناء فلسطين، مضافا إليهم المناضلون في "جيش الإنقاذ" الذي ضم متطوعين من أقطار جامعة الدول العربية، والمناضلون المستقلون من دول المشرق والمغرب".
صدرت الطبعة الجديدة لكتاب عارف العارف "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947 1949" عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في تشرين الأول (أكتوبر) 2012. ويوضح الخالدي في شأن إصداره في 3 أجزاء بدلاً من سبعة في الطبعة الأولى: "ضمت الأجزاء الأربعة الأولى (من الطبعة القديمة) المتن الأساسي للكتاب، وخصص الجزء الخامس لوثائق دولية وعربية وإحصاءات مختارة، والسادس لأسماء الشهداء الذين استشهدوا في القتال (1947 1950) من أبناء فلسطين، ومن ضباط جيوش الدول العربية وجنودها الذين اشتركوا فيه، وخصص الجزء السابع لصور الأحداث والأشخاص الذين شاركوا في تلك الأحداث. ولقد رأينا أن نضم الأجزاء الأربعة الأولى (وهي صلب الكتاب) في جزءين في هذه الطبعة الجديدة (...)، وأن نضم الجزءين الخامس والسادس الأصليين في جزء ثالث صارفين النظر عن الجزء السابع ومستعيضين عنه بصور ملائمة اخترناها وجعلناها في متن الجزءين الأولين الحديثين مضيفين إليها خرائط سياسية وعسكرية منتقاة (...)".
إن كتاب "النكبة: نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود 1947 1949" لعارف العارف، وعلى الرغم من مرور أكثر من خسمة عقود على تأليفه، لا يزال من أهم المراجع العربية الموثوق بها، وأهم مرجع فلسطيني عن نكبة 1948. وذلك لمعاصرة مؤلفه للنكبة ووجوده وسطها وتدوينه اليومي لمجرياتها وتسجيله الدقيق كما لا شبيه له من الروايات عن أحداثها، نقلها عن مسؤولين عرب وفلسطينيين ومناضلين ومواطنين عاديين، حرص على مقابلتهم في فلسطين والعواصم العربية لاستجلاء الحقيقة منهم.