الثلاثاء، 20 يوليو 2010

5 سنوات على انتفاضة الأقصى: إسقاط جزء آخر من الحلم الصهيوني

قطاع غزة يعيش اختلالات عدّة أهمها مسألة المعابر وتعدد السلطات والافتقاد الى البنى الاقتصادية
بعض الفلسطينيين لا يقرأون أسباب الهزائم ويبدأون دائماً من نقطة الصفر ولا يبنون على ما سبق
المستقبل - الخميس 29 أيلول 2005 - العدد 2054 - شؤون عربية و دولية - صفحة 14

http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=143342

أنيس محسن
تطفئ انتفاضة الأقصى اليوم شمعة عامها الخامس، بإرادة فلسطينية متقدة لم تهن رغم كل الدماء التي سالت والتضحيات التي قدمت، أمناً واقتصاداً وحياة. تضاء الشمعة السادسة وقد حدثت متغيرات تنبئ بمسار آخر للقضية الفلسطينية مختلفة عن السنوات الـ47 التي تلت نكبة العام 1948.
بدءاً من الآخر، حيث خلا قطاع غزة (بحدوده التي رسمت بعد العام 48) من التواجد الاستيطاني والعسكري الإسرائيلي في عملية يختلف الفلسطينيون على تقييمها، بين متبنٍ لتصور أن التحرير جاء نتيجة عمل سياسي قامت به الحكومة الفلسطينية منذ تولى محمود عباس الرئاسة الفلسطينية خلفاً للرئيس الراحل ياسر عرفات ولتضحيات وصبر الشعب الفلسطيني، وبين مشدد على أن التحرير جاء جراء العمل المسلح الذي تتبناه غالبية، إن لم تكن كل، الفصائل الفلسطينية. فيما يضيف آخرون أن الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة، إنما حدث بسبب إدراك إسرائيل لسلاح آخر يمتلكه الفلسطينيون، هو سلاح الديموغرافيا.
لكن تحرير غزة، وإن اختلفت الآراء حوله، عمل ناقص، يحتاج الى الكثير الكثير قبل أن يكون ناجزاً. فالقطاع الذي يعيش للمرة الأولى في تاريخه واقع عدم وجود أي قوة احتلال أو وصاية (كان تحت الانتداب البريطاني حتى العام 48 ووقع تحت الوصاية المصرية حتى 1967 والاحتلال الإسرائيلي حتى 15 آب/ أغسطس الماضي)، يقع تحت وطأة اختلالات عدة، أهمها: ان الحدود لم تفتح بعد على الخارج وسط إصرار إسرائيلي على مراقبتها بشكل مباشر، وهو يرزح تحت حكم سلطات وليس سلطة واحدة حيث كل فصيل سلطة و"حركة المقاومة الإسلامية" (حماس) أكبرها فيما "السلطة الفلسطينية" (المسؤولة رسمياً عن القطاع) أضعف من أن تحكم وإن أرادت فإنها ستواجه بسطوة "المليشيات"، وإن واجهت فقد تتسبب بحرب داخلية. كما أن القطاع الذي يعتبر أكثر مكان مكتظ بالسكان في العالم يفتقد أي إمكانية للتطوير الاقتصادي وبحاجة، تبعاً للواقع هذا، الى مساعدات دولية في كل القطاعات الاقتصادية والمؤسسية، وهو من دون بنية تحتية، وإعادة بناء اقتصاده مشروط دولياً بالهدوء التام وعدم إزعاج الأمن الإسرائيلي.
ثم ان تحرير غزة وإن اكتمل، فإن المسألة لن تتوقف عنده، حيث ان تحرير الأرض المحتلة منذ العام 67 في الضفة والقدس لإقامة الدولة الفلسطينية فوق تلك المساحة أمر لا مجال للتخلي عنه. علماً أن الأمر ليس سهلاً بسبب التعنت الإسرائيلي والإصرار على تغيير المعالم الجغرافية في الضفة والقدس على حد سواء، عبر بناء جدار الفصل العنصري الذي يجعلها معازل أين منها معازل جنوب افريقيا ابان حكم الفصل العنصري، وكذلك من خلال مخطط لخفض عدد الفلسطينيين في القدس المحتلة، حيث حذرت الأمم المتحدة أخيراً من أن إسرائيل تسرع في إنجازه.
تكراراً، بغض النظر عمّن حرر القطاع، السلطة أم المقاومة المسلحة أم خوف إسرائيل من خطر الديموغرافيا، فإن الخشية الكبرى هي أن تكمل إسرائيل مخطط رئيس وزرائها ارييل شارون (فك الارتباط الاحادي) وتجعل غزة أولاً وأخيراً بعدما تكون أكملت مخططها الرئيسي لقضم الضفة وإنهاء التواجد الفلسطيني في القدس، وتضع بذلك الفلسطينيين والعالم أمام واقع أن يقبلوا بما هو متاح.. فشيء "غزة" أفضل من لا شيء، طبعاً وفق المنطق الذي تسعى إسرائيل الى زرعه في العقل الفلسطيني. والمخطط الإسرائيلي هذا، قابل للتنفيذ. فإسرائيل تمتلك القدرة المادية والميدانية لإحداث التعديلات التي تراها مناسبة، وتعتمد على تقديرات "العدو" غير المناسبة لتنفيذ ما تريد. و"العدو"، وهو هنا الطرف الفلسطيني الذي يمتهن اقتراف الأخطاء، كما حدث بعد الانسحاب الذي جرى من غزة، ويعطي هدايا مجانية لإسرائيل كي تنفذ مآربها مع "تفهم دولي".
قد يصيب هنا ما نقل عن وزير الدفاع الإسرائيلي ابان حرب حزيران 1967 موشي ديان الذي قال رداً عن استفسار حول السبب الذي يجعل إسرائيل تكسب كل حروبها مع العرب، وأي استراتيجية تتبعها في تحقيق نجاحاتها؟: ان إسرائيل اتبعت في كل حروبها الخطط ذاتها لأن العرب لا يقرأون أسباب هزائمهم.
انطلاقاً مما سبق، بعض الفلسطينيين لا يبدو أنهم يقرأون أسباب الهزائم، وهم يبدأون دائماً من نقطة الصفر ولا يبنون على ما سبق. هذا ليس تجنياً، إنما واقع يمكن الاستدلال عليه في ما يلي:
نجح الفلسطينيون في فرض واقع عربي جديد منذ اطلاق النضال المسلح في العام 1965، وتمكنوا من احتلال ساح الصراع مع إسرائيل بعد هزيمة 67. وفرضوا على العالم أن يعترف بوجودهم. لكن عدم وجود سند استراتيجي رسمي عربي، بشكل عملي (طبعاً الأنظمة العربية كانت تطلق الخطب الرنانة عن فلسطين والثورة وتطعن الثورة بالظهر من خلال استخدام فلسطين للحفاظ على مواقع السلطة)، وميزان القوى العسكري والسياسي الدولي الراجح كثيراً لإسرائيل، أوصل الكفاح في لحظة ما الى أن يصبح قليل الفاعلية، خصوصاً مع تداخل الوضعين الفلسطيني والعربي وتدخل الواحد بالآخر كما جرى في الأردن ثم لبنان.
ومن دون خوض غمار السبب والمسبب في ما جرى في الأردن ولبنان، كان من المنطقي أن يتنبه بعض المتنورين الفلسطينيين الى أن الكفاح ليس مسلحاً فقط، بل ممكن أن يكون أجدى سياسياً وديبلوماسياً، وهنا كانت فكرة البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الذي تبناه الرئيس الراحل ياسر عرفات في العام 1973، ورفضته غالبية الفصائل الأخرى، بل ذهب بعضها في مراحل لاحقة الى تخوين عرفات وقيادة منظمة التحرير "الفتحاوية"، لتعود في مراحل أخرى الى تبني هذا البرنامج والعودة عن منطق التخوين.
مع بلوغ عقد ثمانينيات القرن الماضي، كان الكفاح الفلسطيني المسلح بلغ ذروة الضعف، لا سيما وأن الفصائل كلها، أسست تشكيلات عسكرية أشبه بالجيوش النظامية وتركت العمل العصابي جانباً وانخرطت في حرب لبنان طرفاً أساسياً فيها، ليأتي الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 سهلاً تبعاً للضعف هذا وبلا مقاومة تذكر إلا في بيروت، التي رحل المقاتلون عنها بتسوية سياسية دولية.
هزيمة العام 1982، وإن شاء الكثيرون إعطائها صفة النصر تيمناً بمعركة بيروت، دفعت بعض القيادات، لا سيما الشهيد خليل الوزير (ابو جهاد) الى تبني استراتيجية نقل زخم الثورة المتداعي الى الداخل الفلسطيني، ونجح بأن ساهم في إطلاق أول انتفاضة ضد إسرائيل في الأراضي المحتلة في العام 1987، والتي مهدت بدورها الى مفاوضات أوسلو، ومن ثم الى ما عرف بتفاهمات أوسلو في العام 1993 ودخول منظمة التحرير في مصالحة مع إسرائيل عبر الاعتراف بالأخيرة والتخلي عن الميثاق الوطني الفلسطيني الذي يدعو لإزالة إسرائيل.
أقامت فصائل الرفض الفلسطينية الأرض ولم تقعدها على تفاهمات أوسلو، واتهمت قيادة منظمة التحرير بالتفريط بتضحيات الشعب الفلسطيني واستخدامها في تقديم التنازلات لإسرائيل، علماً أن كل الفصائل التحقت بعرفات في الدخول الى الأراضي الفلسطينية بعد العام 1996، محافظة في الوقت ذاته على رفض تفاهمات أوسلو، وما تزال على موقفها الى اليوم، أقله كلامياً.
بغض النظر عمّا إذا كان بإمكان مفاوضي اوسلو الفلسطينيين جمع مكاسب أخرى لو اتبعت استراتيجية تفاوض صحيحة، كما كان يقول المفكر الراحل ادوار سعيد الذي عاداه الرئيس الراحل عرفات على مواقفه المنتقدة بشدة لنتائج أوسلو، فإن هذه التفاهمات أحدثت اختلالاً ليس في الصف الفلسطيني فقط، بل وفي عمق الفكر الصهيوني لإسرائيل.
إذاً، على المقلب الآخر، أحدثت تفاهمات أوسلو شرخاً في الداخل الإسرائيلي، بلغ ذروته في اغتيال رئيس الحكومة السابق اسحق رابين، ليكون أول مسؤول إسرائيلي بهذا المستوى يقتل بيد يهودية. ونمت التيارات الأكثر تشدداً في إسرائيل وتمكنت من إشغال الساحة التي شغرت بعد غياب رابين، لا سيما وأن خلفه في حزب العمل والحكومة ايهود باراك فشل في إقناع الإسرائيليين بتقديم تنازلات للفلسطينيين، وفشل في فرض أمر واقع على الفلسطينيين، خلال اجتماعات كامب ديفيد وواي بلانتيشن بمشاركة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، عبر محاولة إجبار عرفات القبول بدولة فلسطينية من دون القدس عاصمة لها وبسلخ أجزاء كبيرة من الضفة (تلك التي تتضمن المستوطنات الكبرى) وضمها الى إسرائيل.
كانت الساح السياسية الإسرائيلية باشرت استدارة كبرى بعد مقتل رابين، واقتربت الاستدارة من الاكتمال مع فشل كامب ديفيد وواي بلانتيشن، وتعززت بوصول بنيامين نتنياهو الى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، ثم اكتملت بوصول ارييل شارون الى كرسي الحكم في إسرائيل.
ولم يكن الفشل هذا وقفاً على تطور في إسرائيل، إذ أن الطرف الفلسطيني كان يدخل مرحلة جديدة من الحياة السياسية، ليستبدل الاسترخاء الذي أعقب السنوات الأولى لإقامة السلطة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية بجملة من المشاكل الداخلية متمثلة بتفشي الفساد في السلطة وعدم القدرة على التطور اقتصادياً. والخارجية من خلال تخلي الولايات المتحدة عن عرفات شيئاً فشيئاً وصولاً الى عزله سياسياً أولاً، قبل أن توافق بعدما وصل جورج بوش الى الرئاسة في العام 2000 على سجنه في المقاطعة عقب عملية "السور الواقي" التي شنها شارون وأعاد من خلالها احتلال الضفة الغربية.
قبل ذلك، كانت زيارة شارون في 28 أيلول (سبتمبر) 2000 الى الحرم القدسي الشريف، الشرارة التي أطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) اعتباراً من اليوم التالي للزيارة، واتخذت هذه الانتفاضة في أشهرها الأولى مساراً احتجاجياً عبر التظاهرات ومواجهة الرصاص الإسرائيلي بالحجارة، قبل أن تتحول بقرار من "حماس" الى مواجهة مسلحة، ويكون ما كان ويسيل الكثير من الدماء، وصولاً الى وفاة الزعيم التاريخي للفلسطينيين ياسر عرفات واغتيال مؤسس "حماس" احمد ياسين وخلفه عبد العزيز الرنتيسي وقبلهما أمين عام الجبهة الشعبية ابو علي مصطفى وبعدهم وقبلهم قادة ميدانيون من الحركة والفصائل الأخرى.
غيرت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن في شكل ومضمون السياسة العالمية، وأطلقت يد الولايات المتحدة تفعل ما تريد في أي مكان تريده، فاحتلت أفغانستان بذريعة ضرب تنظيم "القاعدة"، ثم احتلت العراق في نيسان 2003، لتخلط الخارطة الجيو سياسية في المنطقة بهدف إعادة تركيبها مجدداً على الرغم من الرفض العالمي لهذه المغامرة. وفي حين تمكنت بسهولة غير مفاجئة من احتلال العراق، لم تتمكن من قيادة مرحلة ما بعد الحرب بالنجاح نفسه.
بدت الولايات المتحدة في الولاية الثانية لبوش أكثر تفهماً للمواقف الدولية الرافضة للتغيير بالقوة، وشرعت في تعديل سياستها الخارجية متبعة أسلوب التغيير من الداخل وبأدوات داخلية مع دعم خارجي، وفق المنطق الأوروبي.
وفق هذه الاستراتيجية الجديدة، بدأت أيضاً تتفهم ضرورة معالجة بعض مسببات الإرهاب الذي أصابها في الصميم في 2001. وكانت قضية فلسطين واحدة من تلك الملفات التي عدلت النظرة الأميركية اتجاهها، فأطلقت مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة "اللجنة الرباعية" الدولية التي تسلمت مسؤولية معالجة هذا الملف الشائك.
وقد ساهم وصول عباس الى سدة الرئاسة الفلسطينية في كانون الثاني/ يناير الماضي خلفاً لعرفات الذي وافته المنية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004، في وضع تصور جديد، بات يعرف بـ"رؤية بوش" لدولتين فلسطينية وإسرائيلية تعيشان جنباً الى جنب بسلام.
وعباس، هو من أهم مهندسي تفاهمات أوسلو، ومن الداعين الى الأخذ بالاعتبار اختلالات موازين القوى السياسية والعسكرية لمصلحة إسرائيل، والتعامل مع الواقع لتغييره. ومنذ فوزه بانتخابات الرئاسة بناء على برنامج شامل، أساسه وقف عسكرة الانتفاضة في هذه الفترة، حورب بشدة، لا سيما من قبل "حماس" التي استفادت من حمام الدم الإسرائيلي ضد الفلسطينيين لتبني لنفسها قاعدة جماهيرية واسعة، حاسمة في غزة ومعقولة في الضفة.
تنبه شارون للمخاطر التي تحيق بإسرائيل من خلال "رؤية بوش" واستراتيجية عباس، فعمد الى إطلاق خطة "فك الارتباط" احادية الجانب، ونفذها فعلاً منتصف آب (تموز) الماضي، متمنياً أن تحدث الخطة حرباً داخلية فلسطينية.
لم تحدث الحرب الأهلية الفلسطينية، لكن الفوضى التي تستشري كانت كفيلة بالحد من خطورة استراتيجية عباس الهادفة الى تهدئة الساحة الفلسطينية ورمي الكرة الى الملعب الإسرائيلي، وساهمت "حماس" على وجه الخصوص وباقي الفصائل عامة، في الحد منها من خلال إصرارها على إطلاق صواريخ قتلت ودمرت في الجانب الفلسطيني أكثر مما أحدثت من قتل ودمار في الجانب الإسرائيلي، وهذا أمر تظهره الاحصاءات، التي تظهر أيضاً أن حجم الخسائر البشرية الفلسطينية بعد عسكرة الانتفاضة أكبر كثيراً من حجمه قبل تسليحها.
وكانت نقطة الذروة بالانفجار الذي حدث في مسيرة "حماس" في مخيم جباليا للاحتفال بالانسحاب الإسرائيلي من غزة أخيراً، وراح ضحيته 20 شهيداً وعشرات الجرحى وتحميل إسرائيل مسؤولية والمبادرة الى رمي تلك الصواريخ مجدداً، في وقت كان شارون يخوض معركة مع نتنياهو على رئاسة الليكود تخص مستقبله السياسي كله، فيحدث ما حدث وتطلق إسرائيل عمليتها الأخيرة المسماة "أول الغيث". ثم مجدداً تتراجع "حماس" وتقبل الهدنة، معترفة ضمناً بأن انفجار مخيم جباليا كان داخلياً.
القصة ذاتها، الانطلاق من الصفر من دون البناء على ما سبق. وكأن "حماس" تكرر كل ما دأبت عليه فصائل اليسار الفلسطيني الرافضة منذ 1973، تاريخ إعلان البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير، وصولاً الى مرحلة أوسلو، وتداعيات ما بعدها حتى الانسحاب الإسرائيلي من غزة.
فإذا كان الفلسطينيون ضيعوا منذ إطلاق البرنامج المرحلي حتى أوسلو عشرين سنة ليعتمدوه مجدداً بإجماع فصائل منظمة التحرير، موالاة ومعارضة، فإن من الخطأ أن تتكرر التجربة مجدداً وتهدر عشرين سنة أخرى بين إطلاق رؤية الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدولة فلسطينية مستقلة بالاعتماد على المتغيرات الدولية التي قد تكون اللحظة المناسبة لتحقيقها، وبين إدراك "الرفضاويين" الجدد خطأ عدم تقديرهم لتلك اللحظة.
إن اللحظة الدولية هي التي ضغطت على شارون لتنفيذ الانسحاب من غزة بعدما كان يرى "نتساريم" كأنها تل ابيب، ذلك أن العدو هذا أدرك تلك اللحظة ويعمل على الإفلات منها بأقل ضرر ممكن، فينسحب من غزة طمعاً بضم بعض الضفة وعدم السماح بقيام دولة فلسطينية.
في المقابل، هناك في الساحة الفلسطينية من لا يزال يخلط بين الحق والحقيقة. فإذا كانت فلسطين حق فلسطيني فإن الحقيقة أن إسرائيل موجودة ومعترف بها وتملك ناصية القوة في المنطقة كلها. وهم ذاتهم "الرافضون" لونوا ثوبهم الأحمر القديم بلون أخضر فطالبوا بالحق متجاهلين الحقيقة، ثم اعترفوا مجانبة بالحقيقة، وانساقوا وراء ثقل شعبي موقت ليعلنوا النصر لهم فقط دون الآخرين، لأنهم يعتقدون أنهم يمتلكون كل الحقيقة.
المفارقة التي لا بد من النظر اليها، مثلاً أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (الماركسية) كانت سيدة الموقف في غزة في سبعينيات القرن الماضي، ثم تلاشى تواجدها هناك وفي باقي المناطق الى درجة أن حجم تأييدها فلسطينياً وفق استطلاعات الرأي الأخيرة لا يتعدى 3 في المئة. الآن "حماس" (الخضراء) سيدة الموقف في القطاع نفسه، فهل تتمكن من الحفاظ على هذا الواقع. الواقع يقول إن مجمل التصرفات من العراضات المسلحة وتكرار الأخطاء وتكبير حجم الذات أكثر مما هو، قد يجعل "الأخضر" يلحق بـ"الأحمر"، ويضيع سنوات جديدة هباء.
ما يجب التأكيد عليه، أن النظر بعين واحدة وتوهم امتلاك كل الحقيقة أمر ليس جديداً. ومن هذا المنطلق كان النظر ينشد الى اعتبار أن الفلسطيني هو الخاسر من أي مساومة وأن إسرائيل هي الرابح الوحيد. لكن اتفاق أوسلو وبكل علاته، أنهى وهماً صهيونياً امتد لأكثر من مئة سنة بأن حقها التوراتي دولة من النيل الى الفرات، بحيث رفضت وضع أي حدود لهذه الدولة، والآن وبعد "فك الارتباط" بكل علاته أيضاً، أعلنت إسرائيل حدودها مع غزة حدوداً دولية. وإذا وعى البعض "الرافض" هذا الأمر، من الممكن الانطلاق مجدداً نحو الضفة الغربية بسلاح الوحدة والتنوع، واقتطاع جزء آخر من الحلم الصهيوني.. والتاريخ كفيل بما تبقى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق