الاثنين، 15 يوليو 2013

بين "فتح" و"حماس" ما لم تصنعه مصر *



====== أنيس محسن

في مدى عام واحد انقلبت الأدوار في مصر، وانعكست سريعاً على الوضع الفلسطيني، خصوصاً بين حركتي "فتح" و"حماس"، إذ فيما كانت "حماس" بين نهاية حزيران 2012 ونهاية حزيران 2013 تستقوي بحكم "الإخوان المسلمين" في مصر وتتكئ على حكمهم في تونس، وتسهم في شد أزر "الإسلاميين" في الحرب الدائرة في سوريا، وتستعلي على "فتح" وغيرها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني، أصبحت بعد نهاية حزيران 2013 موضع مساءلة في الشارع المصري وكذلك من قبل حركة "فتح".
وحقيقة، لا يبدو استقواء "حماس" بنجاحات "الإخوان" أمراً خارجاً عن المنطق، ففي المادة 2 من ميثاق الحركة أن "حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين. وحركة الإخوان المسلمين تنظيم عالمي، وهي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وتمتاز بالفهم العميق، والتصور الدقيق والشمولية التامة لكل المفاهيم الإسلامية في شتى مجالات الحياة، في التصور والاعتقاد، في السياسة والاقتصاد، في التربية والاجتماع، في القضاء والحكم، في الدعوة والتعليم، في الفن والإعلام، في الغيب والشهادة وفي باقي مجالات الحياة".[1]
كما أن ظروف تولي "حماس" سدة السلطة (المفرغة من مضمونها) فلسطينياً، تشبه كثيراً الظروف التي تولى فيها "الإخوان" الحكم في مصر وتونس، وقد كانت "حماس" سبّاقة زمنياً في الوصول إلى الحكم.
كانت "السلطة" الفلسطينية قد بلغت حداً كبيراً من الترهل والفساد، سواء من قبل الحاكم "الرسمي" (فتح)، أو من قبل المعارضة "الرسمية" (يسار منظمة التحرير)، يعيد كثيرون أسبابه الأولى إلى تحول منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، الموالية والمعارضة، لما يشبه دولة في قلب دولة خلال السيطرة الفلسطينية على جزء كبير من لبنان بين 1975 و1982، مباشرة أو بالواسطة عبر حلفاء لبنانيين، وتدفق الأموال الطائلة على المنظمة ككيان سياسي رسمي ممثل للفلسطينيين، أو على الفصائل الموالية و/أو المدعومة من قبل دول مؤثرة (خصوصا العراق وسوريا وليبيا)، وبناء مؤسسات عسكرية وأمنية وسياسية وإعلامية وثقافية ومالية فوق الأراضي اللبنانية، بحيث باتت المنظمة ومختلف الفصائل أرباب عمل يوظفون آلاف من اللبنانيين والفلسطينيين ومن جنسيات عربية وغير عربية، وما يرافق مثل تلك الهياكل السلطوية من فساد مالي واداري وثقافي متعدد الأوجه. أما الأسباب اللاحقة والقاتلة، فتمثلت بانتقال السلطة الفلسطينية من دولة داخل دولة في لبنان، إلى وهم دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة اعتبارا من سنة 1994 بعد توقيع اتفاق اوسلو في 1993، وبناء هياكل دولة في الضفة والقطاع من دون قاعدة اقتصادية صلبة، إنما عبر بنية مالية هشة تمثلت بتدفق أموال من الولايات المتحدة والدول الغربية ودول عربية، وتوظيف آلاف الفلسطينيين في مؤسسات السلطة الفلسطينية الأمنية وغير الأمنية، ما زاد من اعتماد الفلسطينيين على ما يتلقونه من مرتبات ترتبط أساسا بما يقدم من هبات، إلى درجة أن موازنات السلطة الفلسطينية كانت تتم مراجعتها وتدقيقها من قبل الدول والهيئات والمنظمات المانحة. وبالتالي توجيه ضربة قاتلة إلى ما تبقى من القطاعات الاقتصادية المنتجة، التي أضعفتها إسرائيل بعد احتلالها الضفة والقطاع في 1967 إلى أقصى الحدود. وقد كان الفساد المالي والإداري السمة الناظمة لعمل مؤسسات السلطة الفلسطينية. وتحولت حركة "فتح" من حركة تحرر قائدة للكيان السياسي ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، الى حزب حاكم لسلطة أشبه بحكم إداري، وما يعنيه ذلك من فساد وإفساد، لم تُستثن منه فصائل يسار منظمة التحرير، التي مثلت معارضة رسمية تحيا على هامش انتقادها الدائم للسلطة واعتمادها على ما تقدمه تلك السلطة من أموال.
تمكنت "حماس" من الوصول الى السلطة في انتخابات سنة 2006، وسط هذه المناخات، مضافاً إليها الهجمة الإسرائيلية على السلطة الفلسطينية اعتباراً من سنة 2000 عندما قام إرييل شارون بزيارة استفزازية للمسجد الأقصى وتسبب باندلاع الانتفاضة الثانية، وخصوصاً مع وصوله إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في شباط 2001، والإنقلاب على اتفاق أوسلو الذي تأسس عقب اغتيال أحد رواده الإسرائيليين، اسحق رابين، في تشرين الثاني 1995، وتدمير السلطة الفلسطينية خلال ما يعرف بعملية "السور الواقي" في 2002. واكتساح "حماس" بالتالي مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني وتشكيلها أول حكومة للإخوان المسلمين، مستفيدة من ترهل حركة "فتح" وإفساد السلطة لها، والتنافس بين قياداتها وكوادرها على المناصب وعدم قدرتها على المشاركة في قوائم موحدة خلال الانتخابات تلك، وعدم تمكن فصائل المنظمة، اليسارية، من تكوين البديل عن "فتح"، فيما كانت "حماس" الجهة الأكثر تنظيماً وقدرة على وراثة "فتح".
ومثلما تُتهم "حماس" بأنها أسهمت بتقويض السلطة الفلسطينية بين 1994 و2006 عبر سلسلة من العمليات الانتحارية التي ضربت العمق المدني لإسرائيل، وشكلت منطلقاً لليمين الإسرائييلي للانقلاب على اتفاق اوسلو وتنظيم عملية "السور الواقي" التي دمرت القدرة الأمنية للسلطة الفلسطينية، فإنها تتهم أيضاً بتقويضها المرجعية السياسية للسلطة الفلسطينية برفض حكومتها الاعتراف بإسرائيل، ما جعل الدول الضامنة لتلك المرجعية تمارس ضغوطاً شديدة على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عبر خفض المساعدات المالية إلى الحد الأدنى وتفرض حظراً على التعامل مع حكومة "حماس" التي شكلها إسماعيل هنية، كونها ترفض العملية السياسية المنبثقة عن اتفاق أوسلو وترفض الاعتراف بإسرائيل.
واجهت حركة "حماس" الضغوط المتعددة عليها بتحويل الصراع من فلسطيني ـ إسرائيلي، إلى فلسطيني ـ فلسطيني، فخاضت حرباً طاحنة مع "فتح" وأجهزة السلطة الفلسطينية، في حزيران 2007، انتهت بسيطرتها الكاملة على قطاع غزة وطرد "فتح" منه. بفعل هذه التطورات، باتت السلطة الفلسطينية اعتباراً من 2007 سلطتين، فعمدت إسرائيل إلى استغلال الوضع بمزيد من الضغط على حكومة رام الله والرئيس محمود عباس سياسياً ومالياً، ونظمت عمليتين عسكريتين ضد قطاع غزة، الذي فرضت عليه حصاراً محكماً، وذلك في سنتي 2008 و2012.
خلال الأزمة في غزة، تقلّبت سلطتان في مصر. سلطة مبارك ثم سلطة "الإخوان". في الحرب الأولى توسط نظام مبارك لهدنة بين إسرائيل و"حماس" وكانت سلطة رام الله جزءاً من العملية وإن لم تكن أساسية، وفي الحرب الثانية توسط نظام "الإخوان" بين إسرائيل و"حماس" واستبعدت رام الله من العملية، وللمرة الأولى سجل اعتراف من قبل "حماس" بإسرائيل وأن مداورة، وأقرت "حماس" بمسؤوليتها عن منع أي "اعتداء" على إسرائيل.
وكان نظام مبارك أشرف منذ الانقسام الفلسطيني بين "حماس" و"فتح" على سلسلة من المحاولات الهادفة إلى رأب الصدع، كما تدخلت المملكة العربية السعودية وتوصلت إلى ما عرف باتفاق مكة الذي يشار بالبنان الى أن "حماس" هي من خرقته، عندما كانت جزءاً من جبهة "الممانعة" وصديقة لنظامي الأسد في سوريا والولي الفقيه في إيران، وبدعم من "جبهة الممانعة"، وهو ما يفسر الجفاء بين المملكة و"حماس".
اعتُبرت "حماس" مكونا أساسيا من مكونات جبهة "الممانعة" حتى سقوط نظام مبارك في مطلع 2011 واندلاع الثورة ضد بشار الأسد في سوريا، حين اتخذت موقفاً مؤيداً ضمنياً للثورة ومحايداً إعلامياً قبل أن تعلن مساندتها للثورة ضد الأسد. بل وتنخرط ميدانياً إلى جانب الثوار وإن بشكل غير معلن، عندما نجح "إخوان مصر" في إيصال محمد مرسي إلى سدة الرئاسة المصرية وفازوا مع حلفائهم الإسلاميين بغالبية مقاعد البرلمان، مستفيدين من تشتت القوى الليبرالية والعلمانية والشبابية.
وفيما كانت عقدت اتفاقات عدّة بين "فتح" و"حماس" لرأب الصدع، بوساطة قطرية هذه المرة، فإن وصول الإخوان إلى السلطة في مصر وقبلها في تونس، وتكبير دور القوى الإسلامية في الثورة السورية عبر تسليحها على حساب الضباط العلمانيين في "الجيش الحر"، شكل حافزاً لـ"حماس" مجدداً للتملص من الاتفاقات مستقوية هذه المرة بفقاعة نجاحات "الإخوان"، وخصوصاً في مصر.
ومع دخول مصر موجة ثانية من التغيير في غضون سنتين، وخروج ملايين المصريين في 30 حزيران 2013 مطالبين برحيل مرسي، وتدخل الجيش المصري للمرة الثانية وعزل مرسي، انقلبت الأدوار، وباشرت "فتح" بإصدار البيان تلو البيان موجهة انتقادات حادة لـ"حماس" واتهامات لها بتقويض المصالحة، وبإيذاء الفلسطينيين عبر التدخل في مصر وفي سوريا.
إن ما يمكن استنتاجه من قراءة لمسيرة العلاقة بين "فتح" و"حماس" تقود إلى خلاصة بأنه على الرغم من محورية الدور المصري، إلا أن تلك العلاقة غير السويّة، ليست مسؤولية السلطة المصرية، بغض النظر عمّن يستقر في قصر الرئاسة في القاهرة، بل هي تعود إلى اقتناع "جماعة الإخوان المسلمين" أن "فتح" خرجت، عندما تأسست في نهاية خمسينيات القرن الماضي كتنظيم سري قبل اشهار انطلاقتها العلنية في 1965، من رحم "الإخوان" ورمت عنها عباءتها لتلبس عباءة علمانية، في دور يشبه كثيراً ما حدث بين الجماعة والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. فناصب "الإخوان" في غزة "فتح" العداء، كما ناصبوا العداء لكل القوى العلمانية، وأمثلة الصدام كثيرة وتسبق مرحلة التسعينيات ومطلع القرن 21، إلى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. وعندما تحولت "الجماعة" إلى حركة مقاومة باسم "حماس" لم تكن على ود كامل مع باقي الفصائل، وإن ركزت جهودها بداية على محاربة إسرائيل، ولكن عندما قوي عضدها نفذت استدارة كاملة وحسمت بالقوة سلطتها واستقلت بقطاع غزة، إمارة إسلامية غير معلنة.[2]


 
* نشرت المقالة في جريدة المستقبل - الثلاثاء 16 تموز 2013 - العدد 4748 - شؤون عربية و دولية - صفحة 15

[1]   راجع الموقع  الإلكتروني "وكيبيديا الاخوان المسلمون" http://www.ikhwanwiki.com على الرابط:

[2]  للاطلاع على العلاقة الملتبسة بين "فتح" و"حماس" راجع: سعود المولى، "فلسطين بين الإخوان وفتح"، مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 93، شتاء 2013، ص 138 – 171، وللمزيد عن ظروف تأسيس "حماس" راجع أيضا: سعود المولى، "المقاومة الإسلامية في فلسطين: التباسات البدايات، واقعية المسارات"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 95، صيف 2013، ص 56 – 74.

هناك تعليق واحد:

  1. حتى يتحسن الوضع بفلسطين لزم يصير انتخابات حتى تتغير كل المعادلة بغزه وبالضفة

    ردحذف