الثلاثاء، 25 يونيو 2013

هزيمة الأسير ومشاركة "حزب الله" في معركة عبرا وأسباب عدم اندلاع صراع مذهبي بين السنّة والشيعة








أنيس محسن



السر في عدم اندلاع حرب مذهبية في لبنان: أن أطرافاً مفترض أن تكون الطرف الآخر في معادلة الحرب لا تريد الحرب وترفض التسلح رغم وجود طرف مسلح ومستعد نفسيا لمثل هذه الحرب؛ وأن دولاً مفترض أنها تدعم الطرف غير المسلح إلى الآن ليست بوارد تسليحه على الرغم من أن الطرف المحلي الآخر يحظى بدعم تسليحي ومالي كبير من دولة إقليمية "كبرى".

أحمد الأسير، شخص نفخ إعلامياً فصدّق أنه قادر على تغيير المعادلة، هو شخص بسيط متألم ومجروح ويعبر عن الحالة النفسية لثلاثة أرباع اللبنانيين وخصوصاً السنّة منهم. إنه نموذج يمكن احتواءه وقد احتوي بسرعة في المعركة غير المتكافئة عدة وعدداً في عبرا.
في العراق، عندما انهار نظام صدام حسين، واستُضعفت قاعدته الشعبية (السنيّة)، من قبل شيعة الوطن العراقي الذين حكموا بعدما سيّدتهم الدبابات الأميركية، هذه الفئة السنيّة المستضعفة من الشعب العراقي لم تجد سوى تنظيم "القاعدة" لخوض مواجهة مع الطرف الأقوى، فتحول العراق إلى مقتلة يومية.
لم يتمكن لا الأميركيون ولا الحكّام الجدد في العراق من مواجهة القنابل البشرية "القاعدية"، بل من سيطر على انتشار "القاعدة" واستشراء شرّها في ثنايا العراق، النسيج الاجتماعي نفسه الذي احتضن هذا التنظيم، أي السنّة. فكانت تجربة الصحوات التي أسسها الجنرال الأميركي، الثعلب، ديفيد بترايوس، فانحسرت رقعة امتدادات "القاعدة" وبات قادة التنظيم الذين حكموا وتحكموا في المحافظات السنية، طُفّاراً ملاحقون ومكشوفون مما مكن الأميركيين والسلطات العراقية من اصطيادهم واحداً تلو الآخر.
في لبنان، لا تزال الطائفة السنيّة، طائفة مدنية غير مُعسكرة. فلو أن الطائفة السنية في صيدا ميّالة نحو التطرف لما سقط الأسير بهذه السرعة ولما كان بلا غطاء شعبي حقيقي. وفي طرابلس حيث تُشَيْطَن المدينة وتُصوّر على أنها مدينة "السلفيين الجهاديين"، اقتصر رد الفعل على سقوط الأسير على ساعات قليلة من الغضب وظهور بعض المسلحين، لكن انتهت تلك المظاهر سريعاً، ولم يكن لها أصلاً تأييد شعبي مؤثر. صورة طرابلس المدنية المسالمة ظهرت غير مرّة أخيرا على الرغم من الديماغوجية الإعلامية "الممانعة" التي تعظم مظاهر "السلفية" وتقزم الحقائق المدنية للمدينة وأهلها، فكانت تظاهرات واعتصامات ومسيرات ونشاطات ملفتة للمجتمع المدني، ضد العنف.
في بيروت، فئتان من السنّة: سكان رأس بيروت الذين لم يكونوا يوماً ميالين إلى اقتناء أي سلاح، وسنّة طريق الجديدة، الأكثر شعبية وانفعالاً وتفاعلاً مع المذهبية. لكن أوائك لم تتعد ردة فعلهم على سقوط الأسير سوى إحراق إطارات مطاطية هنا وهناك وظهور مسلح لا يتعدى البنادق الخفيفة وبضعة أشخاص يحملونها، وقد انتهت مظاهر الاحتجاج سريعاً جداً.
وفي البقاع: عرسال، أكبر مدن السنّة وأكثرها عراقة في الانتماء الى المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي، وفي الانتماء العربي، لم تقدها كل المضايقات والتعبئة "الطائفية الإعلامية" إلى صراع مع محيطها الشيعي، كما لم يقد كل ما تعانيه الى صدام بين المنطقة السنية في عكار المحاذية لمحيطها الشيعي. وفي البقاع الأوسط أيضا حرقت إطارات مطاطية وقطعت بعض الطرقات وكذلك في منطقة مجدل عنجر والمصنع.. انتهت الاحتجاجات سريعا جداً.
تلك الصورة صحيحة تماماً عن مظاهر ردات الفعل المادية، لكن ماذا عن ردات الفعل النفسية لدى السنّة في لبنان؟
أكثر ما آلم السنّة في لبنان، كما في الدول العربية، مظاهر النصر الفارغة من أي مضمون أخلاقي التي ظهرت في المناطق الشيعية في لبنان احتفاء بقهر مدينة القصير السورية. يكفي أن يجول السائل افتراضياً في وسائل التواصل الاجتماعي ليتبين حجم الرفض المذهبي لمعركة "حزب الله" السياسية المتلحفة بغطاء مذهبي في سوريا عموماً وفي القصير خصوصاً. أما التجوال الحقيقي بين السنّة وسماع موقفهم مما جرى فيؤكد المشاعر المذهبية المعادية للشيعة التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وإن لم تترجم مواجهة جسدية.
في معركة عبرا، أراد سنّة صيدا قبل غيرهم الخلاص من أسر "الأسير" وكانوا أصلاً ضده عندما قطع أوصال المدينة باعتصامه الذي دام نحو شهراً منتصف السنة الماضية (2012)، مع أنهم لم يخفون هم والسنّة الآخرون في لبنان، تأييدهم للشعارات التي رفعها: تل الداعية لسيادة الشرعية أو المنادية بالخلاص من سلاح "حزب الله".
بدى الأسير وحيداً تقريبا مع مؤيديه، بلا غطاء: طائفياً وشعبياً أو سياسياً. وكان ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبته "فتح الإسلام" في الشمال في 2007؛ التعرض للجيش وارتكاب مجزرة بحق جنوده. وكما في نهر البارد، كان الأمر في عبرا: الجيش مصمم على الاقتصاص من قتلة جنوده؛ والمرتكبين من دون غطاء سياسي أو شعبي. لكن الفارق بين 2007 و2013 أن السنّة وإن كانوا موافقين على إزالة الحالتين، فإنهم لم يكونوا في حالة عبرا بنفس درجة المساندة الشعبية للجيش في حالة نهر البارد. ليس لأن الفعل في نهر البارد كانت واجهته فلسطينية كون المكان هو مخيم فلسطيني، فقتلة الجنود هناك كانوا لبنانيون والفلسطينيون كانوا أقلية في "فتح الإسلام" بل إنهم أخلوا المخيم ما مكن الجيش من حسم المعركة.
في عبرا، ما آلم السنّة اللبنانيون، المشاركة المباشرة لـ"حزب الله" والشيعة في المعركة. سواء بالحصار الذي فرض على فيلا الحريري في مجدليون وكانت النائب بيهة الحريري بداخلها، أو بالانتشار المسلح الواضح والعلني في شرق صيدا وصولاً الى عبرا، وفي حارة صيدا داخل المدينة، وتسريب أشرطة فيديو وبثها على موقع "يو تيوب" تؤكد المشاركة الفاعلة للحزب وحركة أمل في المعركة، وما نُقل عن شهود عيان ونشر في الصحافة في اليوم التالي لسقوط المربع الامني للأسير وأكد التواجد الفعّال لـ"حزب الله" حتى عند الحدود الملاصقة للمربع الأمني للشيخ اللأسير، والحديث هنا ليس عن مجرد تواجد عسكري في الشوارع وفي الشقق المشهورة التي كانت واحدة من أسباب التوتر الأمني في عبرا طيلة الفترة الماضية، إنما عن المشاركة قصفاً والتحاماً مباشراً في الاشتباكات مع أنصار الأسير داخل المربع الأمني.
بدا واضحاً بعد انتهاء معركة عبرا أن السؤال الذي طرحه السياسيون السنّة ومن خلفهم الجمهور السنّي في صيدا وعلى امتداد تواجد السنّة في لبنان: هل الأمر سيتوقف عند مربع الشيخ الأسير؟ وماذا عن الشقق الأمنية وعن والمربعات الأمنية في صيدا ومحيطها؟
بحثاً عن توقعات الشارع السنّي، كان الجواب المباشر والعفوي: لن يتحرك أحد لإزالة أي تواجد أمني في الشقق والمربعات الأمنية التابعة لـ"حزب الله" و"أمل" وحلفائهما في صيدا، وفي المناطق الأخرى!!
الشارع السنّي، غير المهيأ نفسياً حتى اللحظة للاخراط في صراع مذهبي مع الشيعة، وغير المدعوم تسليحاً وتحريضاً من الدول الفاعلة إقليمياً ودولياً لمثل هذا الدور، يشعر بمرارة كبيرة.. مرارة تشبه كثيراً تلك المرارة التي أعقبت الاحتلال الاميركي للعراق وتولي شيعة العراق الحكم، وإعدام صدام حسين وما سبق الإعدام ورافقه من ازدراء طائفي للسنّة كجمهور ولقياداته السابقة واللاحقة، والتي قادت إلى اللجوء إلى "القاعدة" لمواجهة امتهان الكرامات الذي ساد في حينه.
"القاعدة" (بمعنى التطرف الإسلامي السني وليس بالضرورة القاعدة كتنظيم) موجود بكثافة في سوريا، التي منع الدعم عن جمهورها المدني المعارض لحكم آل الأسد، وهو يغلب عليه الطابع السنّي حكما كون الغالبية السورية سنّية، فتحولت التظاهرات السلمية الى مواجهة عسكرية، فيما َمُنع تسليح الضباط والجنود المنشقين عن الجيش النظامي والذين انتظموا فيما يعرف بـ"الجيش الحر" فتشتت هؤلاء واستحالوا مجموعات منشقة ضعيفة أو انضموا إلى التشكيلات العسكرية المليشاوية الإسلامية، بل أحياناً إلى تشكيلات مليشياوية إجرامية، والآن ثمة محاولة تهدف إلى تعويم "الجيش الحر" على الطريقة "البترايوسية". والمعروف أن السوريين شعب محافظ ومتدين، لكنه غير متطرف وميال الى التعايش وقبول التنوع، لكن عندما يفشل الاعتدال في المواجهة يلجأ الناس الى المتطرفين لحماية أنفسهم، أو للانتقام من الآخر. الوضع الحاضر في سوريا هو صراع مذهبي عميق، والتعايش والتنوع ضرب في الصميم ولن تكون استعادته سهلة.
"القاعدة" موجود أيضاً في لبنان، ضعيف كتشكيل منظم، لكنه يقوى ويزدهر كفكر. إنه الدرع الذي قد يكون البديل عندما يتمادا الكل في إفشال وشيطنة الاعتدال السنّي. وعندها لن تكون حرباً مذهبية تشبه الحرب الطائفية التي انتهت، على الطريقة اللبنانية، بمنتصر غير قوي هم المسلمون وخاسر غير ضعيف هم المسيحيون. الحرب المذهبية إذا وقعت قد يكون لبنان، ككيان لم يستقر تاريخيا بعد، هو الضحية فيها.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق