الثلاثاء، 3 يناير 2012

"الربيع العربي" ودور العلمانيين في وصول الإسلاميين إلى السلطة

لمستقبل - الاربعاء 4 كانون الثاني 2012 - العدد 4217 - شؤون عربية و دولية - صفحة 14

http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=502152

أنيس محسن

بعيدا عن الشعارات الرنانة والتحليلات الأيديولوجية المملة... الإسلاميون في السلطة للمرة الأولى منذ نكبة 1948، وبإرادة شعبية خالصة، لا ضباط ولا سلاح خلفهم، فقط عبر الانتفاضة السلمية التي قادها مئات آلاف الشبان والشابات في ساحات المدن الكبرى في القاهرة وبنغازي وتونس، وربما لاحقاً في دمشق وصنعاء وغيرها من عواصم العرب التي تشهد حراكاً شعبياً مستمراً.
كثيرة هي التحليلات الساذجة التي تبني على مداميك "المؤامرة"، الأميركية أو الفارسية أو العثمانية وقبلها الصهيونية واليهودية العالمية، بناء هزيلا عن خطط وضعت منذ سنوات لإزالة "عملاء" ما عاد من حاجة إليهم، مثال حسني مبارك وزين العابدين بن علي، أو لدحر "ممانعة" كما هو الأمر في سوريا واليمن وإيران، باتفاق وتنسيق مع "جماعة الإخوان المسلمين" و/أو السلفيين الذين فاجؤوا الجميع بقدرتهم التعبوية خلال الانتخابات في مصر.
الواقع، ان ثورات الربيع العربي، اعجبت نتائجها البعض وأزعجت البعض الآخر، فاجأت دوائر الغرب السياسية والاستخباراتية، كما فاجأت الأنظمة المخلوعةش أو التي تكاد، وكل "المفكرين" القابعين في البروج العاجية التي أمنتها لهم السلطات السابقة وما تبقى منها.
بكل الأحوال النتيجة انفضت على نجاح شعبي منقطع النظير للإسلام السياسي المعتدل، ممثلا بالإخوان المسلمين على وجه الخصوص، وحتى السلفيين الذين يذهلوننا يوميا بإضفاء معايير قبول الغير في تصريحاتهم، فيؤكدون انهم يطبقون على أنفسهم ما يؤمنون به ولن يجبروا آخرين على التزامه.. الأمر الذي يفهم منه، وبغض النظر عن صدق قائله، وعي تيارات الإسلام السياسي على تنوعها لواقعها المحلي ومحيطها الخارجي، وبأن العالم بات قرية كونية، وان لا وجود لاقتصاد اكتفاء ذاتي، ومسألة السيادة الوطنية ليست سوى تطبيقات نسبية، تحكمها القوانين الدولية ومنطق الأقوى اقتصاديا وعسكريا.
وعلى هامش تلك التصريحات المطمئنة للداخل المختلف، فإن اشارات اخرى موجهة الى الخارج، اظهرتها معلومات تداولها مسؤولون أميركيون، تحدثت عن لقاءات مع "الإخوان المسلمين" خلصت إلى تأكيد الجماعة احترامها لاتفاقيات كامب ديفيد، مسنودة الى تصريحات اخرى لزعماء "النهضة" في تونس والسلطة الليبية المؤقتة وللمعارضة السورية عن قبول تسوية مع اسرائيل، لن تكون وفق اي معطيات لمصلحة القضية الفلسطينية، ومؤكدة عبر تصريحات لسلفيي مصر نقلتها الاذاعة الاسرائيلية اولا وفي بيانات رسمية لاحقا، اكدت احترام حزب "النور" السلفي لاتفاقات كمب ديفيد.
لافتة هذه المرونة الإسلامية والقدرة الكبيرة على التعبئة والتأطير، التي ظهرت في انتخابات تونس ومصر حتى الآن.. وبالطبع قبلهما عند الجار العثماني الجديد ـ تركيا "العدالة والتنمية". حيث وبخلاف النظريات التي تعطي نسبا لا تتجاوز في أحسن الحالات 20% لمصلحة الإسلاميين في الانتخابات الأخيرة، فإن الحقيقة تظهر ان نسبة شعبيتهم لا تقل عن 60%، اذ أن بدعة "الأغلبية الصامتة" ليست بالضرورة معارضة للإسلاميين، بل هي في كل المقاييس لا مبالية، وأولا وأخيرا فاقدة الأمل والثقة بالعالمانيين.
السؤال الذي يطرح هنا، وبعيدا عن سخافة "المؤامرة" والترتيبات المسبقة وتدفق أموال خليجية: لماذا تمكن الإسلاميون المقصيون عن السلطة والعمل السياسي طيلة عمر حكومات "العلمانيين" الديكتاتورية المماثلة لأنظمة عصر "السوفيات" أو الليبرالية المدعومة من "الغرب الإمبريالي"، من الإنتشار الأفقي الفائق السرعة هذا، منذ أن أحرق البوعزيزي جسده في تونس واسقط بن علي واندلعت ثورة يناير في مصر واطاحت مبارك، بأقل خسائر ممكنة، ثم ثورتا اليمن وليبيا التي اودت بحيات آلاف المدنيين بسبب تمسك "الممانعين" القذافي وعلي عبدالله صالح بالسلطة، وحاليا ثورة سوريا التي سقط فيها الآلاف حتى الآن لأن نظام "الممانعة الرئاسي الوراثي" هناك متمسك بالسلطة حتى الرمق الأخير؟.. بل أن السؤال الإستدراكي: لماذا فشل "العلمانيون" هذا الفشل الذريع؟
عود على بدء.. وربطا للحاضر بالماضي والماضي بالحاضر.. نشرت اخيرا على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لطلاب في جامعة الاسكندرية في ستينيات القرن الماضي، قبل هزيمة حزيران 1967 تظهر اختلاطا بين الطالبات اللابسات اقصر التنانير والطلاب ذوي الشعر الطويل وبناطيل "الشارلستون"، وصورة اخرى للجامعة نفسها وفي الحيز المكاني نفسه قبل ثورة يناير 2011 تظهر انفصالا بين الطالبات المحجبات والطلاب.
حدثني صديق من فلسطين، ان عائلته تؤجر مبنى لمدرسة اعدادية للإناث في مدينة نابلس منذ سنوات، ولأنها مطلة على البناء الذي تسكنه العائلة فقد كان يشاهد حركة ملعب المدرسة، الذي كان يكاد أن يخلو قبل ثلاثة عقود من المحجبات، فيما الملعب نفسه اليوم يخلو ممن لا يلبسن الحجاب.
نحن جيل الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.. لا زلنا نذكر حيثما وجدنا، في اي بلد من البلدان العربية، غير الخليجية، طبيعة العلاقات الاجتماعية وشكل الملبس، ونحن نرى بأم العين اليوم طبيعة علاقات مختلفة تماما وشكل ملبس اخر.. فلماذا هذا التغير الذي سبق وصول الإسلاميين الى السلطة في الدول العربية؟
يعيد المحلل الإقتصادي وكاتب العامود الشهير في صحيفة "نيويورك تايمز" بول كروغمان في مقالة طويلة كتبها في العام 2001 سبب انهيار الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، الى عوامل مجتمعية، حين تحول المجتمع الأميركي من مجتمع منتج ومحب للعمل وصادق في مقارباته الانتاجية الى مجتمع غير منتج وكاذب ومحب للكسب السريع، منذ سبعينيات القرن الماضي، فأنتج مدراء تنفيذيون على شاكلته: كاذبون ومدعون وسارقون، راشون ومرشيون، فانهار هيكل الشركات وواصل الاقتصاد انهياره ولا زال حتى الآن.
يمكن معالجة التحولات السياسية في العالم العربي، وتحديدا في دول المشرق والمغرب العربيين، بنفس آلية معالجة كروغمان المجتمعية، اذ ان التحول نحو الإسلاميين جاء نتيجة متغيرات مجتمعية، يجب ان يلحظ فيها ايضا تخطيها ليس العلمانيين بل تخليها عمّا يسمى بـ"الإسلام الجهادي" وعنوانه المتمثل بتنظيم "القاعدة"، لكن السؤال هنا: لماذا تخلى المجتمع المشرقي والمغربي العربي عن العلمانية المتمثلة بالقومية والماركسية وكذلك عن "العنف الاسلامي" لمصلحة "الاعتدال الإسلامي"؟.
يمكن عزو المتغيرات الإجتماعية ـ السياسية الى تحولات تتلخص بما يلي: الهزيمة العربية في حزيران 1967 عسكريا امام اسرائيل، ثم الهزيمة العربية في 1979 سياسيا عبر توقيع اتفاق كامب ديفيد بين اسرائيل ونظام انور السادات في مصر، والهدوء المطلق على جبهة سوريا منذ العام 1973، بعد حرب رمضان التي حررت جزءا من الجولان وبعض سيناء، وانغماس منظمة التحرير في الحرب اللبنانية الداخلية كأحد الأطراف الخارجيين الكثر، وهزيمة المنظمة في العام 1982، ولاحقا تحويل انتصارات ثورة الحجارة في العام 1987 ـ 1988 الى عملية سياسية عقيمة بدأت في اتفاق اوسلو وانعكست سلطة هجينة في الضفة الغربية وقطاع غزة اعتبارا من 1996، استحالت الآن سلطتين واحدة معزولة بقيادة حماس في غزة واخرى محتلة بقيادة فتح في الضفة. هذا فضلا عن عامل غاية في الأهمية، وهو سقوط "السلطات العلمانية" العربية في بؤرتين: الفساد والطائفية، كل على حدة او كليهما معا.
[فلسطين: الراية للإسلاميين

ما قبل الربيع العربي كانت التجربة الأولى لوصول الإسلاميين الى السلطة في المنطقة العربية عبر صناديق الإقتراع، بقيادة حركة "حماس" التي اكتسحت في انتخابات ديموقراطية وشفافة في 25 كانون الثاني (يناير) 2006 مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك عددا لا بأس به من المجالس البلدية، وتمكينها اليسار الفلسطيني عبر التحالف معه من ايصال مرشح يساري الى مجلس بلدية بيت لحم ذات الطابع المسيحي.
قد يزعم البعض ان المجتمع الفلسطيني خصوصا في الاراضي المحتلة، هو مجتمع محافظ ومتدين، لكن الحقيقة تشير الى أن هذا المجتمع هو الذي ازاح بعد نكبة الـ48 جانبا الاحزاب السياسية التقليدية التي تمزج بين الاقطاع والتدين، وثبت الفصائل الفدائية التي تتبنى افكارا علمانية: وطنية على غرار حركة "فتح" وقومية ممزوجة بالماركسية مثال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفصائل يسارية اخرى تولدت عنها او نشأت على هامشها.
لم يكن قبل منتصف ثمانينيات القرن الماضي من وجود للإسلام السياسي في فلسطين، كانت "فتح" تتبوء المنزلة الأولى تليها الشعبية..
في قطاع غزة الغارق حاليا في "الأسلمة"، كانت الجبهة الشعبية (الماركسية المتطرفة في حينه والجانحة نحو الماوية ممزوجة بالقومية العربية) مالكة الأسهم الشعبية الكبرى في قطاع غزة في مطلع سبعينيات القرن الماضي، خلال تجربة العمل الفدائي الذي قاده مسؤولها في القطاع محمود الأسود المعروف بـ"غيفارا غزة"، بتأثير أيضا من الدعاية الشعبية التي اكتسبتها عبر عمليات خطف الطائرات، والتنسيق مع منظمات يسارية عالمية في عمليات نوعية سواء في اوروبا او في فلسطين، مثل عملية مطار اللد، التي شارك فيها الفدائي الياباني كوزو اوكوموتو.
خلال تجربة لبنان، حدث تغير دراماتيكي في اسلوب العمل الفدائي، افقده فعليا وهجه الذي اكتسبه بعد هزيمة حزيران 67، عبر ما يعرف بسياسة "التفريغ"، او تشغيل الشباب الفلسطيني واللبناني والعربي بوظيفة "فدائي" بعدما كان هذا العنوان رمزا لنكران الذات، وأيقونة يتمناها كل حر، ليس على مساحة العالم العربي، بل على اتساع العالم كله.
شكلت منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها، الموالية لفتح او المعارضة لها، سلطة فعلية في لبنان مع غياب سلطة الدولة وإضعاف قدرة الحلفاء اللبنانيين من احزاب "وطنية" و"قومية" و"يسارية" على تشكيل "سلطة ثورية وطنية".
مع خروج قوات المنظمة من لبنان، ثم تأسيس السلطة الفلسطينية التي تولى مفاصلها قياديون قادمون من تجربة لبنان، اسهم استشراء الفساد المالي في السلطة، الى جانب العمل الاسرائيلي الدؤوب لعدم تنفيذ المرحلة الثانية ثم النهائية من اتفاق اوسلو، في بلورة تحول المجتمع الفلسطيني نحو خيارات اخرى، كان اسلاميو فلسطين حجر اساسها، خصوصا مع تأسيس "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس) منتصف ثمانينيات القرن الماضي كحركة مقاومة من رحم التنظيم الفلسطيني لـ"الإخوان المسلمين". فكانت حماس البديل المقاوم، وكذلك في محاربة الفساد المستشري تحت عباءة سلطة فتح. وما زاد الضغط على قوى اليسار وفتح، انهيار الاتحاد السوفياتي وعدم القدرة على تأسيس مسار اخر، حيث اغتربت فصائل اليسار عن قاعدتها الفكرية ولم تتمكن من مد جسور مع قاعدتها الشعبية.. فخسرت فتح لمصلحة حماس، وحل اليسار ثالثا مع فارق كبير بعد حماس وفتح.
[مصر: نهاية "القومية" و"العلمانية"

كانت الناصرية كالنار في الهشيم في ستينيات القرن الماضي. ليس في مصر فحسب، بل على امتداد الوطن العربي. كان تأثير جمال عبد الناصر ماثلا في اقطار الوطن العربي كله: في المشرق والمغرب والخيج على حد سواء.
لعب عبد الناصر عقب انقلاب الضباط الأحرار، أو ثورة 1952، دور رافعة العمل القومي العربي، لكن وفق كل التحليلات اللاحقة، فإن نقطة ضعفه كانت غياب حاضنة حزبية منظمة تؤازره خلال حكمه، وتحمل الراية بعد موت الرمز.
الأهداف التي رفعها عبد الناصر كانت هي ذاتها التي يرفعها المواطن المصري، وكل عربي من المحيط الى الخليج. الاستراتيجيات والشعارات كانت تداعب مخيلة ومشاعر العربي اينما كان. التعبئة كانت تنجح في شحذ الهمم. ثم اهتز الحلم بشدة في هزيمة حزيران 1967، لكن لم ينهار. ثبت المصريون ومعهم العرب عبد الناصر رمزا قائدا رغم الهزيمة برفضهم استقالته. لكن الموت عاجل عبد الناصر الذي كان بدأ يدرك خطأه ويسعى، وفق اكثر من متابع لمسيرته، الى ايجاد الإطار السياسي الناظم.
كان عهد عبد الناصر علمانيا بكل ما لمضمون الكلمة من معنى. كان المجتمع ينحو دائما نحو المدنية والعصرنة، ويميل دائما يسارا في تأييد كل الثورات العالمية، ويساندها، من الجزائر الى فيتنام وكل ثورات افريقيا السمراء، ويتغنى بغيفارا وبكاسترو وكوبا، ويعتز بصداقة الاتحاد السوفياتي، ويقف ضد الاخوان المسلمين في معركتهم مع عبد الناصر.
مات عبد الناصر، فجاء انور السادات، الذي ارسى تحولين رئيسيين: سياسيا مال نحو الغرب في الحرب الباردة وباتجاه التسوية مع اسرائيل، واقتصاديا نحو الليبرالية والكمبرادور بدلا من الاقتصاد الاشتراكي المنتج الذي انجز سد أسوان ومصانع حلوان والاصلاح الزراعي، وكانت مصر مع التجربة الناصرية الرائدة واحدة من القوى الاقتصادية العالمية، التي توفد، وعلى نفقة الحكومة، عشرات الاف المهندسين والاطباء والفنيين الى دول عربية وافريقية واسيوية، للمساعدة في بناء اقتصادات تلك الدول الناشئة.
زار السادات القدس المحتلة والقى خطابا امام الكنيست، فاعترف من حيث اراد او لم يرد بها عاصمة لاسرائيل. واضعف كل المؤسسات الاقتصادية ذات النمط الاشتراكي مقابل اعلاء شأن المؤسسات التي تنتهج اقتصاد السوق، من دون خطة وبغياب الاستراتيجيات الواضحة، فيما قاد هذا التحول رجالات السلطة انفسهم الذين تولوا عبر الاستيلاء على الاملاك العامة، مفاصل الاقتصاد، واستبعد منها الرأسماليون الحقيقيون المستوعبون حقا لاقتصاد السوق واليات عمله.
في السياسة الداخلية، حارب السادات اليسار المصري بخطة مزدوجة، عبر زج قيادات اليسار والناصريين في السجون و/او احتوائهم واحتواء مثقفيهم، وفتح المجال امام بعض الاسلاميين لاحداث مواجهة بين الطرفين، يكون هو المايسترو لها.
لم يغير اغتيال السادات من الامر شيئا، فسار مبارك على المسار الساداتي نفسه، بحيث مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، وحتى مطلع الألفية الثانية، تكثف التمركز الرأسمالي، وبات اقل من ألفي فرد يملكون غالبية الدخل القومي المصري، والقدرة العقارية الأوسع، وباتت مصانع حلوان وكل المؤسسات الانتاجية الصناعية والاقتصادية، وحتى الثروات المائية والنفطية، ملكا لأشخاص من النظام وحوله.
في مصر، حيث المجتمع آزر عبدالناصر ضد الإسلاميين، بدأ مع السادات التحول نحو الأسلمة، ومع غياب هيبة مصر شيئا فشيئا خلال حكم مبارك، افريقيا وعربيا ودوليا، والتهويل المصطنع بالخطر الاسلامي، والقمع المجحف بحق الاحزاب والقوى الاسلامية المعتدلة، واسس كل ذلك لنشوء وتطور "الاسلام الجهادي" استفادة من الحرب في افغانستان ضد الاحتلال السوفياتي، وخصوصا بسبب غياب الهدف الواضح للدولة ازاء فلسطين والحالة العربية والهم الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، كانت عقارب التحول تشير نحو الإسلام السياسي، الذي حقق النتائح الموصوفة في انتخابات ما بعد ثورة 25 يناير، حتى ولو لم يكن هو الواجهة التي قادت تلك الثورة الشبابية، التي باتت انموذجا عابرا لبلد نحو أمكنة اخرى في الاقليم وخارجه.
[سوريا "العلمانية الطائفية"

يمكن وصل ما يجري في سوريا هذه الأيام، بما جرى في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين اندلع قتال بين "الاخوان المسلمين" والقوات التابعة للنظام، خصوصا في حماة وادلب، وانتهت بعد مجزرة في مدينة جسر الشغور ثم لاحقا في حماة.
المجتمع السوري مثله مثل باقي المجتمعات العربية، المحافظة والمتدينة، لكن غير المتطرفة، والموصوف بنزعته القومية التي تنحو كثيرا من الاحيان نحو التطرف. فكيف يتحول الى هوى اسلامي، فيه ملامح تطرف؟
من نافل القول أن التنوع الديني في سوريا سمة من سمات دول شرق المتوسط ومصر، فيها كما في فلسطين ولبنان والأردن غالبية المذاهب الإسلامية وكل التنوع المذهبي المسيحي، لكن الغلبة العددية للمسلمين السنة الذين يمثلون اكثر من 90 في المئة.
على الرغم من الغلبة السنية، الا ان احترام التنوع كان دائم الوجود، في مرحلة ما بعد الاستقلال والحقبة الديموقراطية القصيرة، ثم في العقد الأول من حكم حزب البعث، الى حين تولي الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة بانقلاب عسكري، وتمكنه في فترة قياسية من تأمين سلطته والحيلولة دون تعريضها للوثة الإنقلابات التي ميزت حكم البعث في سوريا، مثله طبعا مثل العراق. لكن عبر تمكين الطائفة العلوية التي تنتسب عائلة الأسد إليها.
عمد الأسد الأب إلى تثبيت العلويين في قمة السلطة الفعلية، الأمنية خصوصا، وزاد حجم القمع الموصوف للمعارضة بشكل عام والإسلامية خصوصا، ونفذ مجزرتي جسر الشغور وحماة مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ورافق ذلك هجوم على مظاهر الملبس الاسلامي في الشارع، حيث تعرضت كثير من النساء للتعنيف اذا ارتدين الحجاب، ما دفع المجتمع السني نحو التدين المستتر. لكن هذا التدين لم يأخذ بعدا عنفيا، واقتصر على البعد الإجتماعي، وعبر كثافة التوجه الى المساجد، وبالتالي لم يثر مخاوف السلطة السورية ما دام يقتصر على هذا البعد.
في حرب العراق الثانية، اعتمدت سوريا ممرا لعناصر "القاعدة" الى العراق، ولاحقا تطور الوضع في لبنان في اعقاب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والانتفاضة ضد الوجود السوري، وخروج الجيش السوري من لبنان، واستخدام بعض المتطرفين الاسلاميين مخابراتيا، ومثالا على ذلك تنظيم "فتح الاسلام"، لكن المجتمع السوري، المتدين، لم يتطرف وبقي على اعتداله الاسلامي.
ظن النظام السوري انه بمنأى عن التحولات العربية، وهو ما اظهرته تصريحات الرئيس بشار الأسد عقب اندلاع ثورتي تونس ومصر، التي اعلن فيها ان "ممانعته" ووقوفه بوجه اميركا واسرائيل، كافيان لمنع وصول التحولات الى بلده، لكن تلك التقديرات ثبت فشلها، فاندلعت تظاهرات شعبية قمعت بالقوة، واستمر قمعها رغم سلميتها، الى حين اتسع نطاق الانشقاقات في الجيش، وهي سنية بغالبيتها، وتم تشكيل "الجيش السوري الحر"، الذي يواجه بعناد قوات النظام خصوصا في محافظتي حمص وادلب.
كل المؤشرات تدل على ان النظام سينهار، او ان تسوية ما سوف تبقيه ضعيفا، وما يمكن قراءته من داخل المجتمع السوري ان اي انتخابات ديموقراطية، سوف تعطي الإسلاميين، كما حدث في مصر وتونس، مرتبة متقدمة.
[المغرب العربي.. واليمن

سبقت الجزائر في تسعينيات القرن الماضي شقيقاتها في المغرب العربي في التحول الإسلامي، وعند اول معبر ديموقراطي قاده في حينه الرئيس الشاذلي بن جديد تمكن اسلاميو "الجبهة الإسلامية للانقاذ" من الفوز في الانتخابات العامة، لكن الجيش ذو النفوذ القوي، قوض التجربة الديموقراطية تلك، وخاض حربا دموية عقب ذلك مع "الأفغان العرب" في الجزائر، خلفت مئات الاف القتلى والجرحى.
واذا كانت هزيمة الاتحاد السوفياتي في افغانستان اعلت مكانة "الافغان العرب" في الجزائر ومكنت "الجبهة الاسلامية" من الفوز، فلا بد من التوقف عند التحولات الاجتماعية في بلد علماني، مشكلته انه حكم بيد حديدية منذ الاستقلال، ودولة منتجة للنفط فيها من الفقر اكثر مما فيها من الرفاهية.
بخلاف الظروف التي مكنت اسلاميي الجزائر، فإن إسلاميي تونس، الأوروبيو المظهر والعقلية، تمكنوا من الفوز بالانتخابات ما بعد بن علي، ردا على الفساد الذي استشرى في مفاصل سلطة بن علي، المدعية العلمانية، وتمكنها من تطويع الكثير من احزاب ومثقفي اليسار، واقصائها الإسلام المعتدل المتمثل بحزب النهضة بزعامة الغنوشي، الذي عاد من منفاه الاوروبي وكثير من قادة الحزب، على صهوة ثورة البوعزيزي.
ولدى جارتها المغرب، فإن الاعتدال الاسلامي ايضا، ممثلا بحزب "العدالة والتنمية" تمكن في الانتخابات الاخيرة من تسجيل فوز غير مسبوق، استنادا ايضا على فشل الاحزاب اليسارية والليبرالية منذ الانفتاح الذي قاده الملك محمد السادس عقب توليه السلطة في العام 1999 خلفا لوالده الحسن الثاني، في قيادة البلاد اقتصاديا واجتماعيا.
أما الدولة الرابعة في منظومة الإتحاد المغاربي، اي ليبيا، التي كانت سببا، فضلا عن النزاع الصحراوي، في عدم فاعلية تلك المنظومة، فقد باتت علتها معروفة، بعدما اصر "ملكها غير المتوج" معمر القذافي على دمارها قبل ان يسلم السلطة، فدمر كثيرا منها قبل أن يسلم الروح برصاص من حكمهم 40 عاما ونيف.
كان القذافي مثله مثل باقي الديكتاتوريين العرب "الممانعين"، يتغنى بالعلمانية ويحذر من الخطر الاسلامي، فيما شعبه يعاني انعدام الحرية وحتى الفقر، رغم كل الثروات النفطية الموجودة في ليبيا.
وانتقالا الى اليمن، برئاسة "العلماني" علي عبد الله صالح، الذي بقي متمسكا بالسلطة حتى بعد تنفيذ محاولة اغتيال ضده، ووافق على تسوية قادتها دول الخليج توفر ضمانات لشبكته العائلية تسهل استيلائها على مواقع اقتصادية مهمة، بعد سقوط الاف الضحايا، فيما كان يمكن التوصل الى هذا الاتفاق في الاسابيع الاولى للانتفاضة في اليمن على سلطانه.
في اليمن، الذي حكم جنوبه الاشتراكيون اليساريون الماركسيون المطعمون بالقوميين العرب، تبدو كفة الاسلاميين هي الراجحة ايضا، لأن من سبق وحكم شقي البلاد وانتج كل الفقر وتلك الحروب، احتسبوا على "العلمانية"، زورا.
بكل الاحوال، فإن من كان من الأحزاب اليسارية والقومية العلمانية منخرطا في السلطة، او متهادنا معها، او معاد لها، لكن من دون تواجد فعلي بين الناس الذين يفترض ان يكون اليسار ممثلا لهمومهم وطموحهم وقضاياهم، دفعوا مجتمعاتهم نحو الخيار الإسلامي بعدما ثبت فشلهم في المحافظة على انجازات كبرى خلال الحقبة الناصرية، ولاحقا في تحقيق اي انجاز، بل خلافا لذلك تحقيق الفشل تلو الفشل.
يقول متابع لما جرى في مصر، انه سأل سائق سيارة الأجرة خلال زيارة من زياراته الكثيرة الى "أم الدنيا": من انتخبت؟، فأجاب "الاخوان المسلمين" فسأله لماذا اخترتهم: فقال السائق: "دول مننا ومنعرفهم ومنشوفهم في الحواري".
أما اليساريون، فإذا أراد أحد البحث عنهم، يمكن ايجادهم في المقاهي، او في التنظير العقيم في البيانات التي اصدروها خلال الانتخابات وكان مستحيل على مجتمع فيه نسبة عالية من الأمية ان يفهم مضمونها، هذا ان فهمه حتى المتعلمون، فيما لم يكن مرشحوهم من الذين وقفوا الى جانب الناس في فقرهم، كما انهم تحالفوا مع احزاب كان بعضها حليفا للسلطة السابقة، وبعضها على طرف نقيض من مفهوم اليسار خصوصا الماركسي والاشتراكي، اي من الليبراليين الجدد الذين افسدوا الاقتصاد المصري ما بعد عبد الناصر.
لهذه الأسباب، جاء الإسلام السياسي على صهوة جواد العلمانيين الذين اثبتوا فشلهم جيلا بعد جيل، ومهدوا بذلك درب "الإخوان" لكي يتولوا زمام الحكم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق