الاثنين، 21 فبراير 2011

أنا والحجاب وحزب الله

وائل ح.
أيام الدراسة الثانوية، حصلت لي قصة مع حزب الله. أرويها.
كنت في السابعة عشر من العمر، وقد توليت إصدار وتحرير نشرة "ثورية جماهيرية" أطبعها على الآلة الكاتبة (!)، وألصق صفحات الآي 4، على صفحات الآي 3، وأنسخ نحو اربعين عدداً منها على آلة تصوير عادية في مكتبة تقع في الشارع الموازي لبربور، أخبئها في شنطتي المدرسية، وأعبر بها حواجز حرّاس بيت الأستاذ، الذين يرمقونني بنظرة لا مبالية أو استهزاء في أغلب الأحيان، لأقوم بتوزيعها في الأيام التي تلي، على زملاء صفي، وأصدقائي.
كان اسم هذه النشرة .."النفير".
حرّرت ونشرت وطبعت خمسة أعداد من هذه المجلة – النشرة (وأنا أؤكد أنها كانت تشبه المجلة، بالأبيض والأسود، أكثر من شبهها للنشرات).
المهم، كان لدي في ذلك الوقت صديق، من عائلة متوسطة، يسكن في منطقة مار الياس، وهو أساساً من إحدى قرى إقليم التفاح.. فنحن أبناء القرى كنا لا نزال نعرّف عن أنفسنا في ذلك الوقت، بصفتنا القروية.
هذا الصديق، كان يحضر بعض الحلقات الإذاعية لحزب علماني قومي في منطقة رأس بيروت، قبل أن تنقلب أحواله، ويصبح مناصراً لحزب الله.. وقيل، والرواية على لسان صديق مشترك، إن اخته، تلك الفتاة الجذّابة، والجميلة، تزوجت فجأة أحدهم، ولبست التشادور، وربما أكون لمحتها يوماً، لا يظهر منها إلا وجه طفولي ناصع البياض، وقيل، نقلا عن الصديق المشترك إياه، إن هذا قد يكون دافع الصديق الأول للاقتراب من حزب الله، حتى أصبح من أشدّ مناصريه، ولا أعرف عنه اليوم شيئاً.
المهم، كنت كناشر لمجلة النفير – صوت الجماهير الطلابية (!)، أبحث عن جمهور قرّاء، وكان هذا الصديق من بينهم، فأعطيه المجلة، ونتحاور بشأن تلك المساحة الواسعة التي تجمعنا، في العداء لإسرائيل..

ولا أنكر، كنت شديد الإعجاب بحزب الله.. ومما كتبته وهو الآن بين يدي، – حمداً لله أن بعض الماكيتات لا تزال بحوزتي وكذلك الآلة الطابعة –، مقال رأي بعنوان "إسلام المقاومة الإسلامية وصهيونية منتحلي الإسلام"، (العدد الأول بعد العدد صفر – تشرين الثاني 1992)، وفيه:
(في لبنان صرخات الله أكبر الكربلائية تسطّر بأحرف من دماء قصّة الانتصار على الجيش الذي لا يقهر.. وفي مصر رجال أخذوا من الإسلام ذقونا مرخية، كتاباً يتزينون به وسجادة صلاة، ويقومون بقتل إخوانهم العرب المسيحيين وبزرع الفتن وباستغباء الشعب الفقير.. ولمن ننتصر؟ للّذي انتصر له عباس الموسوي، وراغب حرب، وعزالدين القسام.. للإسلام الواعي، للإسلام الحرية، للإسلام العدالة الاجتماعية).
كنت قبل ذلك في شباط من العام نفسه، 1992، قد شاركت غاضبا في مسيرة تشييع الشهيد عباس الموسوي، وكلماته لا تزال تتردد في أذني وفي قلبي، "سنخدمكم بأشفار العيون". وكنت في كل ذلك، قد أعلنت أمام الملأ أنني ملحد ملحد ملحد.

ولكن قبل هذا المقال، كنت قد نشرت ما أسميه اليوم محاولة قصة كتبتها بعنوان "الحجاب"، وهي تحكي عن صبي اسمه علي، لديه جارة اسمها فاطمة، من عمره، يسترق النظر إليها.. وكانت محجبة.. وأقتطع (النفير- العدد صفر تشرين الأول1992:)
(قال لها إن وجهها جميل، وعينيها ساحرتان، قال إن وجنتيها عطرتان، وشفتيها رائعتان، وشعرها...وهنا لاحظت فاطمة أن قلمه توقف.. وحاولت أن تفهم السبب، وما أن حدّقت بمرآتها الصغيرة حتى فهمته... ومنذ ذلك اليوم وهي تحاول أن تجيب على هذا السؤال، لماذا نزع الحجاب حرام؟؟؟؟)
المهم، أنني في نهاية هذه القصة القصيرة جعلت فاطمة تنزع حجابها، وباتت الصورة عند علي أكثر اكتمالاً.. وإشراقاً.
(فاطمة شعرها أسود).

لم يكد العدد الأول بعد الصفر يصدر (عدد تشرين الثاني 1992)، حتى جاءني هذا الصديق الذي حدثتكم عنه، ليخبرني أن الأخوة في التعبئة التربوية يريدون مقابلتي.
طرت فرحاً.. فأنا معجب بهذا الحزب المناضل.. وأنا توّاق الى الالتقاء بهؤلاء الرجال الذين يبعثون الرهبة في نفسي، ويشعرونني بالاعتزاز والفخر في الوقت نفسه.
تحدد الموعد، وذهبت إلى بئر العبد، سألت عناصر حماية حزب الله هناك عن مقرّ التعبئة التربوية، دلّوني على الطابق الأول أو الثاني من مبنى سكني حسبما أذكر. دخلت خجلاً ومتردداً، وألقيت التحية بالسلام عليهم، وأخبرتهم أن موعداً قد تحدّد بيني وبين مسؤول التعبئة التربوية آنذاك.. الدكتور حسين الحاج حسن.
وعلى مدى ساعتين ربما، أو أكثر، او ربما أقل.. حاورني الدكتور الحاج حسن، لم يحاول إقناعي البتة باعتناق المذهب الاثني عشري، ولا بالعودة إلى الإسلام، بل كان حوار حول الحرية، والحرية الشخصية، والتقاء المناضلين، شيوعيين او إسلاميين أو قوميين، على معاداة.. إسرائيل.
وخرجت من الحوار مسروراً، ومتفائلاً، فالإسلامي يحاور علمانياً، والاثنان متفقان على.. محاربة إسرائيل! (هو كان دكتوراً وانا طالب ثانوي، هو أصبح نائباً ووزيراً، وأنا مهاجر).
المهم، أنني سارعت في العدد الثالث من مجلتي – النفير (كانون الثاني شباط 1993)، وفي قسم استحدثته على عجل تحت عنوان الموقف الثقافي، لأسطّر موقفا، وفيه:
(الأخوة في التعبئة التربوية في حزب الله غاضبون.
الأخوة في التعبئة التربوية في حزب الله حانقون. والسبب؟ قصة نشرتها (النفير) في العدد صفر.
الخلاف ليس على القصة، على الحجاب، الخلاف الحقيقي هو على مفهوم الحرية لدينا ومفهوم الحرية لديهم. ما هي الحرية الثقافية والفكرية؟ هذا هو السؤال.
(...)
ولكن إذا كان الحجاب خياراً حراً، فهي الحرية بحد ذاتها.
(...)
ومنطقتنا لا يتم تحريرها الا بتحرير مجتمعنا من كل ظلامة فرضت عليه فرضاً، لأن الأعمى لا يقود شعبا إلى الحرية، ولأن السجين لا يحرر سجناء، نعيد نشر قصة الحجاب، رمزاً لإزاحة كل حجاب داخلي وأجنبي).
هذه قصتي مع حزب الله.. عشت وكبرتُ وأنا أدرك حجم الخلاف الكبير معه، أتغاضى عن الدماء التي سفكها، او سفكتها المخابرات الإيرانية، من مفكّرين ومناضلين يساريين ومقاومين في الثمانينيات، حرصاً على نقاء صورة المقاومة في ذهني.. ولكنني لا أغيّر موقفي الأول من.. الحرية، بل أطوّره.. أقع في تجارب خاطئة، أنتقد الذات، أفكر، ولا أتوقف عن التفكير.
واليوم أقول، بلغة ابن السابعة عشر نفسها، لقد خذلتني يا حزب الله، وطالما أنت توجّه سلاحاً ضد رأي، أو تسكت أقلّه عن العنف السياسي المجرم في البلاد، أو تحاول إبعاد الشبهات عن القاتل، أو تنزل إلى شوارع وزواريب وقرى الوطن لتقاتل بالسلاح دفاعاً عن السلاح، أو تهين حلمي بدولة عادلة وديمقراطية في لبنان، فأنا.. ضدّك.
لستُ معهم، لكنني، وبشكل أوضح، ضدّ الديكتاتورية المذهبية المسلحة، وضد الطائفية المقنّعة بالمقاومة، وضد التصفيق لوليّك الفقيه وهو يقتل نيدا سلطان أغا، ويفتك بأحرار إيران، بأطيافها السياسية المتعددة.
وأتعاطف، كإبن السابعة عشر، مع ابنة الثامنة عشر، المدوّنة الأسيرة طل الملوحي، التي تقبع في سجن حليفك الآخر.
ولو أصدرتُ مجلة النفير في هذه الأيام (!)، لكان عنوان الغلاف:
فلتنصبّ كل جهود القوى السياسية المدنية في مواجهة الفاشية المذهبية.
لا لاصطياد مقاوميها الأبطال الذين نحفظ لهم في ذاكرتنا ما قدّموه للوطن من دماء، بل حفظاً للوطن من كابوس الانهيار.
نحن نحبّ فلسطين حرّة.. ونحب لبنان حرّاً أيضاً.
فارجع إلى عائلتنا.
وابقَ ناصعاً في ذاكرتنا عن مارون الراس وبنت جبيل.
ولا تقسّمنا، فصالحنا معك.
ولا تخونّا، فنحن إخوة.
نحن تعلمنا حبّ فلسطين قبل لبنان، ولكنّ بعض الحبّ وفنونه معدٍ، فنحبّ لبنان أيضاً، بلداً ديمقراطياً متعدداً تعددياً غنيّاً ثرياً عربياً يعيدنا إلى العروبة.
هذا لبنان، إذا كان تحويله لثكنة متقدمة في الحرب الثورية الجهادية ضد الاستكبار (من بوشهر الى غزة الإمارة)، سيفتّته وسيدفعه نحو انهيار مجتمعي وسقوط كلّ أفق وحدة وطنية أو تعايش مدني، فمن أخبرك أننا جاهزون للتضحية باسماعيل؟

هناك تعليق واحد:

  1. قلت لوائل: انها رائعة ادبية واخلاقية وثورية.. وانا اعرف وائف اليساري العتيق الجميل الذي لم يغادر مكانه، وسمح لي بإعادة نشر رائعته هذه مشكورا
    انيس محسن

    ردحذف