الخميس، 17 فبراير 2011

الرهان على عودة مصر
المستقبل - الثلاثاء 15 شباط 2011 - العدد 3913 - الصفحة الأولى - صفحة 1



ميشال نوفل
اذا كانت عودة مصر الى ممارسة الدور الاقليمي الذي يفرضه موقعها الجيوسياسي المحوري وقيمتها الاستراتيجية، تعيد الأمور الى نصابها في المنطقة وتقلق بعض "الأشقاء" والأقطاب، فإن أحداً في الأوساط الديبلوماسية الغربية لا يتوقع أن تندفع القاهرة تحت ضغط التغيير الثوري الذي أسقط نظام مبارك الى إلغاء اتفاقية السلام مع اسرائيل أو الدخول في مواجهة دراماتيكية مع الولايات المتحدة. بل يُرجح أن تتجه مصر في سياق "الربيع الديموقراطي" للنسج على المنوال التركي في حقل السياسة الخارجية، أي التمايز في اطار العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة لاستعادة المكانة المفقودة.
واستناداً الى التحليلات التي تتداولها الدوائر الديبلوماسية وتشغل أكثر ما تشغل عواصم القرار في الغرب، سيكون على الادارة الأميركية أن تعتاد من الآن وصاعداً على "اعادة تموضع مصرية" تضع حداً لزمن كانت واشنطن تعتبر القاهرة "ورقة في الجيب"، وعلى أن "الشراكة الاستراتيجية"، كما في الحالة التركية الأميركية، تتسع لأن تكون مصر شريكاً بهذا القدر أو ذاك، لا أن يتقرر مصير المعادلة من جانب واحد.
وثمة من يقول ان استعادة مصر بعض التوازن على صعيد المكانة والدور في الوطن العربي والشرق الأوسط، يعيد الأطراف الفاعلين في العلاقة العربية الايرانية والعلاقة العربية التركية والتوازنات الاقليمية، الى احجامهم الطبيعية بحيث لا يعود العالم العربي مجرد ملعب لسياسة المحاور. حتى الحضور التركي الذي افترضنا أنه يقدم الموازن الايجابي لـ"الاختراق الايراني" والبديل من تراجع الدور العربي، فأنه يصبح بلا جدوى ويعمّق حالة اختلال التوازن الاقليمي في غياب مصر تستعيد دور القاطرة العربية لتحدث مع تركيا التوازن المطلوب مع ايران، فضلاً عن التوازن الصحيح بين الأتراك والعرب.
إذاً، لا بأس من استعادة مصر دورها تحت سقف العلاقة الاستراتيجية مع أميركا، إذا كان ذلك لا يمنعها من أن تصبح شريكاً لديه القدرة على ممارسة الضغط والممانعة في مواقف وسياسات أساسية، مثلما هي الحالة التركية ازاء الحليف الأميركي واسرائيل. ولا ننسى أن الدولة التركية منعت الأميركيين في عز الحرب على العراق من عبور مجالها الجوي للوصول الى شمال بلاد الرافدين، كما حرمتهم من استخدام قواعدها العسكرية، علماً أن أنقرة عضو في حلف شمال الأطلسي وتربطها بالولايات المتحدة رابطة مأسسة أكبر وأكثر تعقيداً من علاقة مصر وأميركا. وهذا يعني أن هناك مجالاً للتمايز والاستقلالية، وعلينا أن نخرج من دوامة "عليك أن تكون ملحقاً أو صدامياً" في العلاقات والاصطفافات الدولية، ما يمكن أن يصحح ويصلح أموراً كثيرة في المنطقة، خصوصاً في ادارة الصراع العربي الاسرائيلي وديبلوماسية التسوية السياسية.
حقيقة ساطعة أن مصر تغيرت بعد ثورة 25 يناير، ولم يعد في الامكان العودة الى الوراء، أقله لتبدل مناخات الثقافة السياسية والاجماع على بناء الدولة المدنية الديمقراطية، واذا صحت الفرضية القائلة ان جزءاً من الحراك الشعبي الذي بلغ الذروة في ميدان التحرير، مصدره المطلب الاجتماعي الاقتصادي، فإن الجزء الآخر المتعلق بالكرامة والحرية يقود الى المطلب السياسي بشقيه الداخلي والخارجي. والأمر الأكيد ان قدراً من الشعور بالمهانة عند المصريين مرده الى انتهاء المكانة وان فقدان الدور والمكانة كان من عناصر الغضب الشعبي المصري، وهذه مسألة خطيرة في الجيوبوليتيكا المصرية، يجب التفكير فيها بصورة جدية لكونها ستعود الى طاولة البحث لمجرد التقدم في الورشة الاصلاحية الآيلة الى ارساء شرعية دولة القانون. وبالتالي سيكون على النخب الجديدة في القاهرة استعادة المكانة بمصر من خلال العمل لإخراج البلاد من الفراغ الجيوستراتيجي الذي أحدثه غيابها عن المسرح الجيوسياسي. ولهذا السبب تحديداً نفترض ان الحاكم الجديد في مصر، سواء كان عسكرياً تخلى عن بذلته أو مدنياً يستند الى المؤسسة العسكرية (التي ستضطلع بدور مهم في المرحلة المقبلة بصفة كونها حامية للدولة والنظام)، أمامه النموذج التركي في حقل بناء القوة المحورية، وإن كانت التجربة التركية في التحول الديموقراطي تنطوي على مفارقة هي وجود أحزاب سياسية راسخة في الحياة السياسية واللعبة البرلمانية، استطاعت أن تفرض نفسها موازناً للمؤسسة العسكرية، فضلاً عن التقاليد المؤسساتية للدولة السلطانية التركية.
لقد ارتكبت أخطاء استراتيجية فادحة في عهد مبارك من نوع عدم التنبّه لمخاطر أزمة انفصال جنوب السودان وانعكاساتها على أمن مصر الاقليمي، وتهافت الدور المصري في الموضوع الفلسطيني الى درجة المشاركة في الحصار الاسرائيلي المضروب على قطاع غزة ومحاولة التشويش على المبادرة التركية..
ولأن محرك ثورة الشباب جمع بين الخبز والكرامة، فإن من الصعب أن نتصور أن يقبلوا بالمهانة التي فرضت على "أم الدنيا" وبوابة السلام والحرب. بل ان القيادات الجديدة في مصر لن تجد مفراً في التفكير في الاتجاه الذي يجب أن تسير عليه في المستقبل، وسيكون عليها بالضرورة أن تبدي رأيها في عملية التغيير في المنطقة، وربما تصبح مرشداً للتغيير العربي في المدى القريب أو المتوسط.
كل هذا يختصر بإعادة تموضع مصر على المسرحين العربي والشرق أوسطي، وهي عملية ستكون لها ارتداداتها على صعيد السياسة الاسرائيلية والعلاقة العربية الأميركية، من دون أن تعني الالتحاق بالمحور الايراني ـ السوري الذي استفاد في صعوده من غياب مصر.
ميشال نوفل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق