السبت، 15 يناير 2011

تونس: دروس للشرق وللغرب


أنيس محسن


عندما أحرق شاب جامعي تونسي نفسه في سيدي بوزيد في كانون الأول (ديسمبر) احتجاجا على منعه من العمل كبائع متجول بعدما حالت البطالة دون تمكنه من العمل وفقا لتحصيله العلمي، لم يكن أحد في داخل تونس أو في خارجها يتوقع أن تصل الأمور إلى حد الإطاحة برجل البلاد القوي والرئيس القادم من أجهزة الأمن والطامح إلى رئاسة أبدية وراثية (الأغلب لزوجته ليلى طرابلسي كما كان يشاع كثيرا).
لم يخامر ظنا أي مسؤول تونسي، أو ضابط أمن متمرس في تعذيب المعتقلين السياسيين، أو مثقف موظف لدى أجهزة الأمن، بأن إحراق محمد البوعزيزي نفسه ليس سوى حدث سيمر مرور الكرام. وبالتأكيد لم ينتبه للحادث الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، حامي بن علي الأول، ولا كل من يعتقد في الغرب، أن الشعوب العربية شعوب خاملة، لا تتحرك سوى بأمر من قياداتها الفاسدة أو من قياداتها "الإرهابية"، ذلك الغرب الذي اخترع معادلة دعم الأنظمة الفاسدة في مواجهة "الإرهاب الإسلامي".
لكن شعب أبو القاسم الشابي أحال قصيدة "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر" إلى واقع، وقلب المعادلات.. نبض الشارع لم يكن "إسلامويا" بل انتظم الكل تحت شعار "خبز وحرية".. ورفعت في تظاهرات الساعات الأخيرة قبل فرار بن علي صور تشي غيفارا وأعلام فلسطين، التي أهدت كل أحرار العالم وألهمت الشعوب العربية من خلال انتفاضة الحجر ضد البندقية والجسد في مواجهة الدبابة (الحديث هنا عن إنتفاضة الحجارة وليس عن انتفاضة "الأقصى" التي تحولت إلى عمل مسلح قوض الإنتفاضة الثانية، برأيي).
تونس التي لم تقبل أمس، فقط برحيل بن علي وتبوء رئيس وزرائه محمد الغنوشي سدة السلطة مؤقتا، بل طالبت تظاهرات تواصلت ليلا برحيل النظام، لأن "للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق" كما قال الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي، وقد ضرجت انتفاضة "الخبز والحرية" بدم عشرات الشهداء والجرحى خلال شهر من التظاهرات، كان عصارة 23 عاما من احتمال القهر وقضم الغيض.
تونس، التي كشفت عن بالأمس عن شعب حيوي، حضاري، متشبع بالثقافة الغربية الرفيعة المستوى، لكنه عربي الانتماء، وقد رفع المتظاهرون شعارات العروبة ايضا في تظاهراتهم، تونس تلك أعطت دروسا للغرب كما للشرق، أراها كما يأتي:
1- للغرب: أن الشعوب العربية ليست أقل حيوية من شعوب وسط أوروبا التي قوضت انظمة ديكتاتورية تلطت خلف عدالة الماركسية لتقمع شعوبها وتضعه داخل قوالب فولاذية، وأن استخفاف العقل السلطوي الغربي بعقول الشعوب العربية وبحيويتها، انما ينم عن جهل بالأمور وتبسيط سيقودها الى مزيد من المآزق في الشرق، وليس مع متخلفي "الإسلاموية السياسية" مثل "القاعدة" وأخواتها (شيعة وسنة)، بل مع شعوب تتمتع بمستوى تعليمي راق، وبثقافة حقوق إنسان عميقة، أساسها وعيها بحقوقها ووعيها بذاتها ووعيها بوعيها.
من نافل القول، أن نظام بن علي، كان طفل الغرب المدلل، وخصوصا طفل جمهورية ساركوزي في فرنسا، تحت بند ثقافة "محاربة الإرهاب" الأميركية. فبن علي كان يساوم الغرب على قمع "التطرف الإسلامي" من خلال قمعه (بعد استيلائه على السلطة في العام 1987 وإزاحته الرئيس "الجاهد الأول" الحبيب بورقيبة)، الحركات الإسلامية، خصوصا حركة النهضة، فيسكت الغرب عن قمعه الحريات العامة كلها، من خلال تقويض النقابات وملاحقة كل وطني ويساري وديموقراطي في البلاد وزجهم في السجون او دفعهم الى مغادرة البلاد، بل وعلى دعم مالي عبر عملية توجيه رأس المال الإستثماري "مدروسة" الى السوق التونسية، لتستفيد منها فئة من ازلام النظام ومحيط بن علي العائلي، وخصوصا عائلة زوجته آل الطرابلسي ومحيط العائلة هذه ايضا.
جاءت انتفاضة تونس التي اطاحت بن علي بدرس لا بد للغرب من تراجعته بعمق شديد:
أ – أن كل الدعم الذي يمكن ان يقدم لطاغية تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، لن يجدي "إذا الشعب يوما أراد الحياة" لأنه "لا بد أن يستجيب القدر.. ولا بد للقيد أن ينكسر".
ب – أن الإستهانة بحيوية الشعوب العربية، ووصمها بالتخلف، إنما ينم عن عقلية تسلطية متخلفة، نمطية، تعيش أزمة بداخلها، سوف تودي إلى تقويض النموذج الغربي بكامله، الصالح منه والطالح.
ج – أن التغيير في الشرق العربي الذي رفعت شعاره الولايات المتحدة، عبر التغيير بالقوة زمن جورج بوش الإبن، والتغيير بالضغط الناعم حاليا مع إدارة باراك أوباما، لا يجدي نفعا، وأن التغيير ما لم يأت من الداخل لا يعول عليه.
د – أن التغيير عبر الشارع، ليس بالضرورة "إسلامويا" إنما قد يحمل، وهو حمل، بعدا شعبيا وطنيا حضاريا، فتظاهرات تونس وضعت الخبز والحرية وفلسطين والعروبة في سلة نضالية واحدة.
2 – للشرق: في الشرق العربي عقلية سلطة هي الأكثر دونية بين كل جهات الأرض. تعتقد أن "المتسلط" قابع في سلطته الى ما لا نهاية.. شرق، قابل تحويل الغرب أنظمته الملكية إلى "ملكيات دستورية" فيها الملك صورة لا أكثر، إلى رئاسات وراثية، فيها الرئيس ملك يورث مملكته إلى خلفه، وهو حتى لم يرثها من سلف أصلا. لهذه السلطة المتخلفة في شرقنا العربي قالت تونس:
أ – إن اقبية القمع زائلة فـ"لا غرفة التوقيف باقية ولا زردالسلاسل.. وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل" كما قال شاعر فلسطين الراحل محمود درويش. وبالتالي على كل الطغاة، سواء أولئك الذين لا يستحون بطغيانهم فيعلنونه، أم الذين يغلفون طغيانهم بعملية تمويه عبر تزوير أرقام النمو وصناديق الإقتراع، أن يدركوا ما حصل ويستدركوا ما هو قادم عليهم، وينزاحوا عن كراسيهم قبل أن تجتاحهم انتفاضة لا بد أن تتعمم.
ب – إن عملية التعمية والتمويه باتت غير مجدية على طريقة بن علي، عبر مزاعم النمو الإقتصادي، المستندة الى كل تزوير ممكن في الأرقام، واستئجار الأقلام من مشرق العرب ومغربهم، لكتابة قصائد الغزل بالنمو الإقتصادي والبحبوحة ورغد العيش، وبالحرية والليبرالية. لأن كثرة الضغط لا بد ان تولد انفجار، قد يكون انفجار تونس بردا وسلاما قياسا بما يمكن ان يحدث في أمكنة أخرى.
ج – إن "التوريث الرئاسي" ما عاد ممكنا، ورفع شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" و"لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة"، وهذان الشعاران يرفعهما البعض ضد اسرائيل وأميركا فقط للمقايضة داخليا وخارجيا ببقائهم في السلطة، فيما الأفعال تنفي الأقوال، حيث لا معركة الى ضد الشعوب ولا مقاومة الا لحركة التغيير.
د – إن رفع شعار "محاربة الإرهاب الإسلامي" بات غير مجد بعد انتفاضة تونس، لأن الغرب سوف يتأنى كثيرا اعتبارا من 15 كانون الثاني (يناير) }أي اليوم التالي لسقوط بن علي{ في غباوة تصديق هذا الشعار ودعم الطغاة.
ه – إن التلطي خلف فلسطين و"المقاومة" لتغطية مشاريع سلطوية وطوائفية وأحلام مواقع متقدمة في عملية اعادة تنظيم النظام الدولي ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وترنح الأحادية الأميركية، غير مجدية، ووحدها انتفاضة مثل انتفاضة "الخبز والحرية" في تونس، لها شرف رفع شعار "فلسطين" و"العروبة" ووضعها في مصافيها السامية الحقيقية.
و – إن من هم في السلطة المباشرة، أو في سلطة غير مباشرة عبر التسلط على المجتمعات، أو الطامحين الى تولي السلطة، عليهم التفكير مليا بأنه يمكن لهم أن يستلبوا عقول فئة ما طوال الوقت، لكنهم لا يستطيعون استلاب ارادة الشعوب كل الوقت.
ز – إن حماة الطغاة في الغرب، يفضون أيديهم عندما يسقط الطغاة، فساركوزي رفض استقبال بن علي، والرئيس الأميركي باراك أوباما حيا انتفاضة الشعب التونسي الذي يحق له اختيار سلطته.
تلك هي بعض من الدروس التي نثرتها انتفاضة "الخبز والحرية" في تونس في مروج أرض العرب الخصبة لبذار الحرية، ورياحين الإرادة الحرة التي نسمتها صوب الغرب ليستفيق من غيبوبة الصورة النمطية للشعوب العربية، وإلا فإن رياح التغيير ستضرب شرقا كما غربا.. وهي لا بد أن تضرب ولو بعد حين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق