الثلاثاء، 17 أبريل 2012

الفلسطينيون يراجعون تجربتهم في لبنان 5

اليسار الفلسطيني لم ينأَ بنفسه عن الحرب الطائفية

"الشعبية": لن نكون طرفاً في أي صراع داخلي لبناني

"الديموقراطية": الحل الجذري يقتضي معالجة شاملة

المستقبل - الاربعاء 18 نيسان 2012 - العدد 4316 - ملف - صفحة १२

لم يكن اليسار الفلسطيني بمنأى عن الحرب الداخلية في لبنان التي اخذت منحى طائفياً، ما شكّل معضلة أخلاقية لهذا اليسار المتحالف فكرياً مع نظيره اللبناني، والمنغمسان معاً، بصرف النظر عن العناوين المعلنة، في حرب طائفية.
كان يمكن لليسار الفلسطيني ان يلعب دوراً آخر غير الانخراط في تلك الحرب. فمعظم قياداته اختبرت لبنان في أيام السلم والإزدهار، لا بل فإن حركة "القوميين العرب" التي انبثق فصيلا اليسار الأكبر عنها، الجبهتان "الشعبية" و"الديموقراطية"، انطلقت من لبنان عبر قيادات عاشت فيه وانطلقت منه وكانت عضويتها اللبنانية لا تقل اهمية عن عضويتها الفلسطينية.
هذا اليسار، تمادى في لبنان فأسّس أحزاباً حليفة له أو تحالف مع أحزاب كانت شقيقة له في مرحلة الحراك القومي، و"تميسرت" مثل الجبهتين بعد هزيمة حزيران (يونيو).
ان معضلة اليسار الفلسطيني في الحرب اللبنانية هي معضلة أخلاقية بامتياز. المفترض أن ما يميّز اليسار ثوريته ذات البعد الإنساني، وقدرته على الانتاج الفكري، فهل كان لمشاركته في الحرب اللبنانية بعد انساني أو فكري؟ ثم كيف قرأ ما جرى وهل راجع التجربة؟
الإجابة عن هذا السؤال، ملك لمسؤولي "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في لبنان وعضو مكتبها السياسي مروان عبدالعال، و"الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين" وعضو مكتبها السياسي علي فيصل، في سياق مساهمتهما في هذا الملف.
***
***
لا يختلف اليسار الفلسطيني، ممثلاً اساساً بالجبهتين "الشعبية" و"الديموقراطية" لتحرير فلسطين، في الخلاصات الاخيرة في سياق مراجعة التجربة اللبنانية، عمّا توصلت إليه حركة "فتح" وكذلك "حماس"، وهو ينأى بنفسه عن التجاذبات اللبنانية حاليا، لكن تحالفاته تبقى مبدئية، اذ ان اليسار اللبناني هو الحليف اولاً وأخيراً.
يرفض اليسار الفلسطيني أن يكون قد تورّط في الحرب من جانبها الطائفي، ويؤكد ان جوهر الأزمة ما كان فلسطينيا ـ لبنانيا، انما لبنانيا ـ لبنانيا، ومن بوابة مطلبية عبّرت عنه الحركة الوطنية اللبنانية ببرنامجها الاصلاحي الذي طرحته قبل اندلاع حرب العام 1975.
وفي حين أن جوهر الأزمة بنيوي مرتبط بطبيعة النظام في لبنان، فإن تحويل الصراع الى صراع طائفي كان القصد منه ضرب التوجّهات الاصلاحية للحركة الوطنية اللبنانية وتصويرها على انها الطرف المسلم المقابل للطرف المسيحي، رغم علمانيتها، وبالتالي تصوير المقاومة الفلسطينية على أنها جيش المسلمين من جهة والطامحة الى جعل لبنان وطنا بديلا من جهة اخرى، فضلا بالطبع عن العناصر الاقليمية المتمثلة بحرب تشرين 1973 وخروج مصر من المواجهة وعقدها اتفاق سلام منفرد مع اسرائيل، والحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق.
وفيما اندلعت الحرب الاهلية، يجمع اليساريون على أنه لم يكن ممكناً تلافيها أو وقفها لكثرة التداخلات التي عقّدت المسألة، وخصوصا العنصر الاسرائيلي الذي كان يسعى لضرب امكانية الاصلاح في هيكل النظام اللبناني من جهة ولانهاء تجربة المقاومة الفلسطينية من جهة اخرى.
واذا ما اختلفت النظرة الى الماضي بين اليسار والاخرين حول اسباب الحرب في لبنان، فإن الجميع يتوافقون على النتائج الكارثية التي حصلت، ويصرّون على الاستفادة من التجربة السلبية في نسج تجربة اخرى في لبنان، اساسها عدم الاصطفاف مع اي طرف ضد اخر، مع المحافظة على عامل الشراكة مع اليسار اللبناني، حيث التوافق الفكري بين الجانبين.

عبد العال: سلّمنا السلاح بنيّة الدخول في حياة مدنية
يمكن اعتبار ان "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التنظيم الفلسطيني الأقدم في لبنان، كونها منبثقة عن "حركة القوميين العرب" التي أسّسها المناضل الراحل الدكتور جورج حبش، ورفاقه الذين كانوا في عداد طلاب الجامعة الأميركية في بيروت عند النكبة حيث تخرّج طبيباً، خصوصا ان "القوميين العرب" كانوا الاكثر نشاطا في لبنان وعدد اخر من الدول العربية، وكانت فلسطين هي في مقدمة، بل ربما الهدف شبه الوحيد لهم.
لكن معرفة لبنان لم تحل دون الانجراف في حرب دمرت لبنان والعمل الفدائي الفلسطيني فيه، في عملية يقول عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومسؤولها في لبنان مروان عبد العال ان الجميع كان فيها "ضحية الرواية الوهمية حيث كثيرون في لبنان كانوا يعتقدون أنهم عندما يقاتلون الفلسطيني كانوا يقاتلون مؤامرة التوطين، وهنا الآخر يحتاج الى مراجعة وأن يدقّق في ما اذا كانت هذه الرواية حقيقية أم أنه كان ضحية رواية وهمية دفع لبنان ثمنها. بالتالي لا يمكن أن تستقيم المسألة ما لم تبادر كل أطراف الحرب الى إجراء مراجعة حقيقية".
هل كان بإمكان الفلسطيني ان يتلافى الحرب؟... يرى عبد العال انه "لم يكن باستطاعته، حتى ولو أراد ولأكثر من سبب:
الأول له علاقة بالبيئة التي تركت لمن يشعلها، فالفلسطيني خضع لحالة طوارئ منذ أن هجّر الى لبنان في العام 1948، ولم تكن ثمة سياسة محددة للتعامل مع الفلسطيني بما يمكن ان نطلق عليه سياسة اللاسياسة، التعامل معه كان تعاملا امنيا محضا.
الثاني: وهي المسألة الأهم التي يجب ان لا ننساها، ان ثمة عاملا داخليا غاية في الأهمية شكل احد اهم عناصر الانفجار الداخلي، وهو شكل نظام الحكم في لبنان والخلاف عليه. فقد كانت الحركة الوطنية اللبنانية تطرح مشروعا اصلاحيا على صلة بالتحولات الاجتماعية اللبنانية، يرفضه طرف لبناني اخر.
السبب الثالث: القضية لم تكن صرف لبنانية، ولم تكن متعلقة بلبنان وقواه السياسية، انما كان قراراً خارجياً، تضافر مع الظروف المهيأة في المناخ اللبناني لتستفيد منها اطراف خارجية، ومنها القضايا ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. فعند مراجعة التجربة يجب ان لا ننسى عناصر مثل حرب تشرين والطفرة النفطية ومكانة لبنان الاقتصادية كمصرف لأموال النفط، ثم ان الحرب الأهلية في لبنان كانت واحدة من مقدّمات "كامب ديفيد"، اذ ما كان في إمكان أنور السادات زيارة القدس لو كان الوضع الفلسطيني مختلفاً، ثم ما حدث في لبنان جاء بعد ما حدث في الاردن (احداث ايلول الاسود)".
[ اتفاق القاهرة ضرورة عربية
لكن محاولات عدم الانجرار الى مزيد من التدهور سبقت زيارة السادات الى القدس وجاءت في مرحلة مبكرة من الصدامات بين الفدائيين والجيش اللبناني، فلماذا لم يفلح في وقف الانجرار الى الحرب، يرى عبد العال ان "اتفاق القاهرة جاء عبر موازين قوى، والواقع العربي كان حاضرا فيه بقوة، بدليل الثقل المصري الكبير في انتاجه، وجود (الرئيس المصري السابق جمال) عبد الناصر تحديدا. وكانت الاحتكاكات الفلسطينية ـ اللبنانية خطيرة وتؤثر على الواقع العربي".
كما ان الاتفاق جاء منقوصا وحاملا في طياته عناصر خرقه، على ما يرى عبد العال الذي يوضح انه "في نطاق ادبيات الجبهة ومن مضمون خطابات الأمين العام المرحوم الدكتور جورج حبش، الذي كان يقول، ان اتفاق القاهرة هو ثوب ضيق على الثورة الفلسطينية، ونحن كجبهة شعبية نفرضه لأنه ناقص، وبالتالي نحتاج الى توسيع هذا الثوب، وان يشمل الكثير من القضايا التي لم تكن مشمولة، مثل القضايا الاجتماعية والسياسية".
ويعتبر عبد العال، ان "اتفاق القاهرة تم توسيعه أمنيا بشكل مبالغ فيه وهذه إحدى أهم ثغراته، والواقع ان التجربة العسكرية يجب ان تدرس ايضا بعناية. فقد اصبح للفلسطينيين جيش، السؤال من فرض وجود هذا الجيش؟ هل هو غياب وجود جيش وطني حامي فكانت المقاومة بديل الجيش؟ أم أن الحرب الأهلية فرضت وجود هذا الجيش حيث تعرض المقاومة للقصف وللهجمات فرض على الفلسطينيين ان يقوموا بعملية تجنيد وتجييش وأصبح هناك عسكرة للمجتمع الفلسطيني مثلما كان الأمر داخل المجتمع اللبناني نفسه الذي جيش وتعسكر؟".
الخلاصة اذا، كما يراها عبد العال: "كانت هناك بيئة مهيئة، أجواء مشحونة في أرض خصبة بانتظار من يرمي عود الثقاب. بوسطة عين الرمانة كانت عود الثقاب وليست السبب الحقيقي. هناك مقدمات فرضت مثل هذه البداية".
[ الأمس واليوم
أما وقد انتهت الحرب وانقضى عليها 37 سنة، فما هي الدروس المستوعبة؟ يقول عبد العال: "الحرب انتهت، لكن ما لم نستوعب اسباب الحرب التي مضت، فسوف تعود. الآن نسمع نوعاً من لغة حرب، فهل الدعوة الى إزالة مخيم أو قتل فلسطيني هي محاربة للتوطين؟ وهل مواجهة التوطين تكون بإزالة الشعب الفلسطيني، هذا منطق استئصالي وعنصري. هذه مقدمات لحرب يجب ازالتها كي لا تقع الحرب. ان فشل منع وقوع الحرب، سببه عدم التعامل مع المقدمات الممهدة للحرب".
يشير الى ان "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" عاشت بعد العام 1982 مرحلة من الجدل الداخلي، والنقاش حول تجربة لبنان. كما كانت وقفة مماثلة بعد تجربة الأردن. طرحت اسئلة كبيرة ربما كانت تحتاج الى اجابات جدية. توقفت اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أمام تجربة لبنان منذ البدايات، حتى في بداية الحرب الأهلية كانت هناك وقفة مهمة للجنة المركزية للجبهة الشعبية تحدثت فيها عن المزالق التي يمكن أن تؤثر على الوجود الفلسطيني في لبنان، وبعد انتهاء الحرب ودخول لبنان في مرحلة السلم الأهلي، كانت وقفة مهمة لقيادة فرع لبنان في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعنوان المصالحة مع الذات والآخرين، وكانت وقفة شاملة حول كل المسائل السياسية والاجتماعية، وبالمعنى التاريخي كيف نجري مصالحة بين المجتمعين اللبناني والفلسطيني، لأن الجروح كانت عميقة جدا، وفضلا عن النقد الذاتي في اطار التجربة، كان سؤال في المراجعة عن سبب الانزلاق السريع للحرب. العديد من المسائل تمت مراجعتها على هذا الصعيد.
يقول عبد العال: "قبل كل شيء يجب ان لا نهمل ان المقاومة كفصائل مسلحة خرجت من لبنان في العام 1982، حيث كانت هناك جيوش فلسطينية في لبنان، كان هناك جيش التحرير الفلسطيني وقوات عسكرية فلسطينية متعددة. خرجت كل تلك القوى وأصبحت المخيمات عارية من الحماية، وفي هذا المناخ حصلت مجزرة صبرا وشاتيلا، التي تركت اثراً كبيراً وجرحاً عميقاً لا يسهل علاجه.
رغم كل ذلك، كنا مقتنعين بضرورة الدخول في مرحلة السلم الأهلي في لبنان، ولهذا تم تسليم السلاح الفلسطيني الثقيل والمتوسط للجيش اللبناني، وطبّق على السلاح الخفيف الفلسطيني ما طبّق على السلاح الخفيف اللبناني. تلك الخطوات جاءت من الجانب الفلسطيني، وكنا ننتظر أن تعالج بعد ذلك مباشرة قضايا الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان، لكن هذا لم يتم". يضيف: "سلّمنا السلاح لأننا كنا نريد ان ندخل في حياة مدنية واجتماعية وان نتمكن من العمل في المجال السياسي، الجواب العملي وأحياناً العلني كان أنه لا حقوق للفلسطيني، بل ان الحقوق ربطت بالتوطين وأصبح الافراج عن الحقوق الانسانية صنو التوطين، ما عنى ويعني رفض الوجود الفلسطيني فيزيائيا ومن حيث المبدأ".
[ نهر البارد.. الإمتحان
الفلسطيني قرأ التجربة وراجعها، وهو استفاد من قراءته تلك بعد التطورات التاريخية التي حدثت في لبنان في العام 2005، وهنا يقول عبد العال: "كاد البلد ان ينفجر بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهو قامة ليست عادية، كان هناك رعب حقيقي، وحاول البعض زج الفلسطينيين من خلال تكبير صورة الاسلاميين في المخيمات وكأن كل الفلسطينيين اصبحوا اصوليين اسلاميين. اجتمعنا كقيادة فصائل فلسطينية وقررنا ان لا نتدخل بما يجري، بل وضعنا نفسنا تحت سلطة القرار اللبناني اذا ما تعرض لبنان لأي اعتداء. لكن في الصراع الداخلي نحن فلسطينيون، ولن نكون طرفا في اي صراع داخلي في لبنان، وما ننحاز له هو فقط السلم الأهلي في لبنان. هذا الوعي تشكل عفويا لدى الشعب الفلسطيني ولدى الفصائل حتى من دون وجود دراسة شاملة للتجربة اللبنانية، انما لشعور ربما بخطأ التورط في الحرب الأهلية. ببساطة كان منطق الفلسطيني العادي في الشارع اننا غير معنيين، اذا تدخلنا اليوم واصطلح المتخاصمون اللبنانيون غدا سوف نتحمل نحن كل المسؤولية".
من هذا المنطلق يعتبر عبد العال ان "ما جرى في نهر البارد كان جزءاً من مخطط لزج الفلسطينيين في الصراعات التي كانت تجري في لبنان بعد 2005، لكن المخطط فشل عندما اكدنا اننا شركاء للجيش اللبناني في معركة نهر البارد. النتيجة اننا كنا ضحية، هذا صحيح، لكن ايضا لم نكن القاتل، وهذا اراح الوضع الفلسطيني كثيرا واخرج الفلسطينيين من اللعبة التي كانت تحاك. قلنا لينفجر المخيم في صدرنا ولا ينفجر في لبنان".
من ضمن المساهمات الفلسطينية ايضا في المساعي نحو طي صفحة الماضي كانت وثيقة "اعلان فلسطين" في لبنان في العام 2008، التي يقول عنها عبد العال: "الاعتذار الذي قدمه السفير عباس زكي عبر وثيقة اعلان فلسطين في لبنان، لم يكن احد ضده، انما الاعتراضات التي ثارت حوله كانت لأنه ليس شاملا، وانه اعلان سياسي اعلامي اكثر منه مراجعة عميقة للتجربة الفلسطينية في لبنان. لكن الوثيقة كانت في سياق النظرة الجديدة الفلسطينية الى كيف يجب ان تكون علاقة الفلسطينيين بلبنان".
الاصرار الفلسطيني على الانفصال عن التجاذبات اللبنانية افسح في المجال امام انقشاع الضباب الذي خيم على العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية، وباتت مسألة الحقوق الانسانية في مقدمة البحث، ليس كمطلب فلسطيني، انما كواجب لبناني، ويشير هنا عبد العال الى ان "حكومة الرئيس سعد الحريري اكدت ان واجب الدولة اعطاء الحقوق للفلسطينيين اكثر مما هو مطلب فلسطيني، وهذه مسألة غاية في الأهمية".
وانطلاقا من تجربة نهر البارد وعلى الرغم من المماطلة في اعادة اعماره، يقول عبد العال: "أستطيع أن أجزم ان القضايا لم تعد بالحدة التي كانت عليه، وهناك ليونة لدى الجميع، على الرغم من صدور بعض المواقف فيها مبالغة في المخاوف، واحيانا تأتي من معطيات غير صحيحة ويبنى على اساسها مواقف سياسية، الكثير من تلك المواقف تتغير عندما تشرح المسائل بشكلها الصحيح والعميق. مثلاً اعمار نهر البارد يحظى بإجماع لبناني، رغم وجود بعض العراقيل والعقبات احياناً الآتية من مواقف فردية تجري معالجتها، ومن خلال قضية نهر البارد تجري حوارات مع مختلف الاطراف اللبنانية تتناول مسألة المخيم النموذجي والمشاركة والشرعية، وقضية المخيم النموذجي الذي طرح نهر البارد كمشروع له، نؤكد للطرف اللبناني ان فهمنا له هو كيف نحافظ على الخصوصية الفلسطينية ضمن القانون اللبناني، فعدم الدمج يجب ان لا يعني الاستثناء ولا الانعزال، انما فهم الحالة الخاصة من ضمن الشرعية. هذه النقاشات تجري بأمل ان تخلق مساحة مشتركة بين الفلسطيني وكل اللبنانيين، وهي مساحة الى الآن ليست شاملة، قد تظهر في عناوين وتختفي حول عناوين اخرى. فمسألة اعادة المخيم الى شكله المدني قد نجد طرفاً لبنانياً يوافق عليها وطرفاً اخر لا يوافق، والتقسيم هنا ليس على اساس اسلامي ومسيحي فالاتفاق والاختلاف يتم مع اطراف من هنا واطراف من هناك".

فيصل: وجد الفلسطينيون أنفسهم ضمن الحرب من دون أن يقرروا
"الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين"، التنظيم اليساري الفلسطيني الذي ارتبط بعلاقات وثيقة مع مجموعة من القوى اليسارية اللبنانية، لعبت دورا مميزا في سياق الحياة السياسية الفلسطينية، وفي مختلف مراحل العمل الفلسطيني في لبنان منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، ولها قراءتها للحرب الاهلية اللبنانية والمشاركة الفلسطينية فيها، وكيفية الخروج من أسر تداعياتها، ومن خلال قراءات عديدة للتجربة خرجت بنتيجة ان "أخطاء ارتكبها الطرفان الفلسطيني واللبناني عقدت امكانية الحل".
تعتبر "الجبهة الديموقراطية"، وبلسان عضو مكتبها السياسي ومسؤولها في لبنان علي فيصل ان "القراءة الموضوعية لتاريخ الحرب اللبنانية لا يمكن حصرها بسبب واحد، بل هناك مجموعة من الاسباب يقع في مقدمتها الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وقضية الاصلاحات الدستورية والقانونية، عدم فعالية المؤسسات السياسية، الصراعات الاقليمية والدولية، ولا ننسى اسرائيل، التي كانت لها المصلحة الرئيسية في التعجيل في الحرب",
وترى الجبهة الديموقراطية ان "القناة الامنية بالنسبة للسلطة اللبنانية مثّلت أحد أهم عناوين هذه العلاقات، وفرضت عبرها على الفلسطيني سلسلة من إجراءات التضييق القاسية، من دون أي اعتبار لحقوق إنسانية، بما في ذلك حرمانه من حقه في العمل وحرية التنقل أو التعبير السياسي عن شخصيته الوطنية، أو حتى استقبال ضيف من خارج المخيم في بيته دون إخطار الجهات الأمنية واستئذانها". ويقول علي فيصل: "هذه السياسات ضد المخيمات شكلت الدافع الرئيسي في أن أول ما فعله اللاجئون حين امتلكوا سلاح المقاومة في المخيمات أنهم أغلقوا المخافر الأمنية، باعتبارها رمزاً للقمع ولسياسة التمييز، ليس من موقع الرغبة في التعدي على السيادة اللبنانية، بل من موقع رفض الخضوع للقمع وسياسة الإذلال المتعمد التي كانت مفروضة عليهم".
[ بيئة الحرب وارتكاب الأخطاء
بعد ظهور الفدائيين الفلسطينيين في لبنان عقب هزيمة حزيران (يونيو) 1967 ومع الشروع بتنفيذ عمليات انطلاقا من الجنوب اللبناني حدثت صدامات بين الجيش اللبناني والفدائيين الذين ايدتهم الاحزاب اليسارية والقومية وجزء كبير من الشعب اللبناني، ووسط ظروف عربية ضاغطة تم التوصل الى اتفاق القاهرة في العام 1967، لكن "اخذت رقعة الصراع تتوسع شيئا فشيئا متنقلة بين منطقة واخرى، الى ان انفجرت الحرب الاهلية اللبنانية بشكلها الأكثر مأساوية وبشاعة، ولم يعد سهلا وقف تفاعلاتها، نتيجة تعدد اطرافها ودخول مجموعة من الاطراف الخارجية على خط تغذية الصراع، بما ضاعف من حجم التعبئة النفسية التي ادت الى ارتكاب ممارسات من قبل جميع من شارك فيها"، وفق ما يقول علي فيصل الذي يشير الى انه "بدا واضحا، لكن بشكل متأخر، ان الجميع كان خاسرا في هذه الحرب واكثرهم على الاطلاق الشعب الفلسطيني في لبنان، الذي انعكست عليه الحرب والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة بأشكال مضاعفة، وبات الاكثر تضرراً من نتائجها المختلفة".
اتساع رقعة الحرب جرى رغم كل محاولات الحل. يوضح علي فيصل: "جرت اكثر من جولة حوار قبيل الصدام الكبير، وكنا نحن في "الجبهة الديمقراطية" من أصحاب الرأي القائل بضرورة حل التباينات بين الاخوة بشكل حواري بعيدا عن استخدام العنف. لكن كثيراً من الممارسات الخاطئة لدى الطرفين اللبناني والفلسطيني عقّدت امكانية حل هذه التباينات بوسائل سليمة، وكثيرا ما دفعت هذه الممارسات بالأمور في اتجاه التناقض والصدام لدرجة انها أسهمت في التسريع بتشكيل الجبهات المتناحرة". يضيف: "لقد وقعت اكثر من جولة حوار مع القوى المسيحية تحديداً سواء في إطار قيادة الثورة أو الحركة الوطنية أو في اطار منفرد وثنائي. وتركزت تلك الحوارات مع احزاب "الجبهة اللبنانية" ممثلة بحزب الكتائب ومع الكتلة الوطنية ممثلة بالعميد ريمون اده، لكن مع الاسف ان كل هذه المحاولات لم تعط النتيجة المرجوة ولم تستطع ان تقدم شيئا سوى تأجيل الصدام".
وفي سياق انفلات الوضع، يقول فيصل: :لقد وجدنا انفسنا في حمّى الحرب الاهلية دون قرار منّا وفي احيان كثيرة دون علم قيادة الثورة الفلسطينية، بل ان بعض القوى كانت ترى لها مصلحة مباشرة في تأجيج الصراع خدمة لأهداف احيانا طائفية واحيانا اقليمية ودولية وأحياناً لأسباب بعيدة عن المصلحة الوطنية البنانية والفلسطينية ايضا".
[غياب القراءة المشتركة
يعتب علي على انه "وبعد مرور كل هذه السنوات على انتهاء هذه الحرب، هناك انطباع عام لدى الفلسطينيين بأن جميع من ساهم في هذه الحرب حاول التنصل منها. وبقي الفلسطينيون يحملون هذا الارث الثقيل لنتائج الحرب ويدفعون ثمنها حتى اليوم". ويقول: "الطرفان اللبناني والفلسطيني، لم يجريا في ما بينهما النقد اللازم للمرحلة السابقة بكل جوانبها المختلفة واشكالياتها ومحطاتها المتعددة. هذه العلاقة التي هي من اهم واكثر العلاقات تشعبا وتعقيدا بين مختلف العلاقات العربية - العربية، وهو ما دفعنا كجبهة ديموقراطية وكفصائل فلسطينية الى محاولة تقديم رؤية فلسطينية جديدة تأخذ في الاعتبار التغيير الحاصل في لبنان والمنطقة بشكل عام نتيجة المفاوضات العربية والفلسطينية الاسرائيلية".
في المقابل يشير الى انه "عندما استعادت الدولة اللبنانية عافيتها وقدرتها على الإمساك بالوضع الأمني، عادت الى لتعاطي مع المخيمات باعتبارها مجرد حالة أمنية فرضت حولها طوقاً عسكرياً، وطبّقت بحق سكانها إجراءات مذلة وقاسية طالت مختلف جوانب الحياة اليومية للاجئين، ونجحت بفعل ذلك، وإلى حد كبير، في دفع الآلاف من أبناء شعبنا إلى الهجرة من لبنان، بحثاً عن حياة أفضل".
[رؤية مستقبلية
كل شيء تغير، منظمة التحرير باتت عسكريا خارج المعادلة عقب خروج قواتها من لبنان كنتيجة للاجتياح الاسرائيلي في العام 1982، ورغم جروح مجزرة صبرا وشاتيلا ومن ثم حرب المخيمات، سعى الفلسطينيون الى اظهار الصورة الحقيقية لهم بعيدا عن الصورة النمطية التي علقت في ذهن اللبنانيين. يقول علي فيصل: "لقد نجحنا في تقديم صورة الفلسطيني بشكلها الحقيقي: ملتزم بموجبات السيادة اللبنانية واحكام القانون ويطمح الى بناء علاقات سليمة وصحيحة مع جميع مكونات المجتمع اللبناني باعتباره خارج اطار السجالات الداخلية ويقف الى جانب لبنان ووحدته وعروبته وسيادته".
وسط تلك الرؤية الجديدة، يتابع: "جاء توقيع اتفاق الطائف عام 1990 بين مختلف القوى اللبنانية المتصارعة لينهي حالة من الحرب استمرت لأكثر من خمسة عشرة عاما، وليضع حلا لاستيعاب عناصر المليشيات اللبنانية في اجهزة الدولة المختلفة، وبشكل موضوعي، لم يتوافر مثل هذا الحل على صعيد الفلسطينيين ممن كانوا في عداد المقاومة الفلسطينية المسلّحة، خاصة بعد الغاء اتفاقية القاهرة التي كانت تنظم العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية. وبالغاء هذه الاتفاقية اصبح الوضع الفلسطيني في لبنان شبيها بما كان عليه قبل العام 1969. هذه الاشكالية هي التي دفعت الحكومة اللبنانية الى المبادرة، بتاريخ 3 تموز 1991 لاتخاذ قرار بفتح حوار مع الفلسطينيين بشأن الحقوق الاجتماعية والانسانية، فشكلت لهذا الغرض لجنة من الوزيرين عبدالله الامين وشوقي فاخوري، بعد تسليم السلاح الفلسطيني الثقيل الى الجيش اللبناني. كما جاء بعد مجموعة من الحوارات مع الفصائل الفلسطينية، التي تداعت الى سلسلة من الاجتماعات، توصلت على اثرها الى صياغة مذكرة موحدة تعكس رؤيتها لماهية الحقوق الانسانية للفلسطينيين في لبنان. وسلمت هذه المذكرة الى لجنة الوزيرين التي وعدت بدراستها والرد عليها في اقرب فرصة".
هذه المساعي المبكرة تجمدت بفعل مؤتمر مدريد وبدء عملية المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، حيث "طوت الحكومة اللبنانية صفحة الحوار المنتظر، وارجأت عملية البت بالمذكرة الفلسطينية الى حين اتضاح صورة المفاوضات". لكن "بعد انقضاء اكثر من عشر سنوات على تسليم هذه المذكرة، لم يتم أي بحث جدي بهذا الخصوص"، وفق علي فيصل.
ويؤكد العضو في المكتب السياسي للجبهة الديموقراطية ان "المتغيرات العاصفة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري فرضت نفسها على اوضاع الفلسطينيين في لبنان وبأكثر من صورة. وقد نجح الشعب الفلسطيني بجميع فصائله بالنأي بنفسه خارج اطار الحالة التي شهدها لبنان بعد عملية الاغتيال والاصطفافات السياسية الجديدة، واكد انه يقف مع جميع اللبنانيين ويطمح بوقوف جميع اللبنانيين معه ومع نضاله من اجل حقه في العودة وحقه في اقرار الحقوق الانسانية. لكن هناك من سعى ولا زال يسعى الى زج الفلسطينيين في اطار الصراع الداخلي لاسباب باتت معروفة للجميع".
وفيما يشير الى انه "اليوم هناك اعتراف من قبل جميع القوى بالتقصير الحاصل تجاه الاوضاع الفلسطينية"، يرى فيصل ان "الوصول إلى صيغة مستقرة للعلاقة بين الدولة اللبنانية والحالة الفلسطينية تفترض إسقاط القناة الأمنية كوسيلة للتعامل، واعتماد صيغة الحوار المتبادل، القائم على الصراحة والشجاعة، البعيد عن المجاملة والانفصام بين الخطاب والسلوك". ويؤكد انه "بعد مرور ما يزيد عن عقدين على انتهاء الحرب الاهلية ودخول لبنان مرحلة السلم الأهلي، يبدو ان العلاقة الفلسطينية اللبنانية لا زالت تحتاج الى الكثير من العمل والجهد من قبل الطرفين".
ويشدد على "ان الحوار المطلوب ليس حوارا فوقيا كما جرت العادة، بين الحكومة اللبنانية وممثيلها ومنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية. بل ان المطلوب اليوم هو حوار على مستوى اوسع يطال النواب والوزراء والاحزاب والنقابات على اختلافها والهيئات الروحية.. حوار يتناول مختلف عناصر الملف الفلسطيني في لبنان، وبالتالي فإن وظيفة الحوار المطلوب هي تنقية الملفات والسياسات الموروثة من زمن الحرب.. ومن ثم تقديم قراءة مشتركة لهذه الملفات بغية الوقوف على ايجابيات العلاقة التاريخية وتفادي سلبياتها".
ويرى علي فيصل ان "الحل الجذري للعلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية يكمن في معالجة الملف الفلسطيني بجميع جوانبه قانونيا وسياسيا واقتصاديا وامنيا كرزمة واحدة وهذا ما يستدعي خطة مشتركة وإقرار الحقوق الانسانية والإنتقال الى تنظيم العلاقات على قاعدة الحقوق والواجبات المتبادلة بما يعزز موقف اللاجئين المتمسك بحق العودة وفقا للقرار 194 والرافض لجميع مشاريع التهجير والتوطين".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق